• 6 November, 2024 00:59

Karozota.com

Sweden

العظة الثانية – في مديح القديس بولس

Bykarozota.com

Dec 30, 2020

القديس يوحنا ذهبى الفم

القديس بولس الرسول مثل بارز لإمكانيات الطبيعة البشرية في الفضيلة

تُعتبر حياة الرسول بولس مثالاً حياً لإمكانيات الإنسان الفائقة في الحياة المقدسة، بعمل النعمة الإلهية، فلم يَعد لنا أن نحتج بضعف طبيعتنا، فإنه ليس من طبيعة تختلف عن طبيعتنا.

كانت محبة المسيح هي المصدر الرئيسي لجهاده وملء مسرته، وظل هدفه الأوحد هو خلاص النفوس. كان ملائكياً في نقاوته، حازماً في قراراته، يشارك الكل معه في إنجازاته.

 

بولس الرسول كمثالٍ حي لإمكانيات الإنسان

كان القديس بولس من أنبل الرجال ومثالاً واضحاً لسمو الطبيعة البشرية وإمكانيتها (خلال النعمة) في الفضيلة. خلال حديثه عن شخص السيد (المسيح) وحثٌنا على الفضيلة أدان (بولس الرسول) المنادين بفساد الطبيعة البشرية، وأبكم أفواه الناطقين بالافتراءات، مؤكداً أن الفرق بين الملائكة والبشر طفيف جداً إن أرادوا الوصول إلى درجة الكمال.

لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم والمدينة وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر. الآن، أين هؤلاء المعترضين على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟ فهذا الرجل يدينهم بكلماته: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدي (2 كو4: 17). فإن كانت ضيقاته محتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟

 

اتقاد غيرته وسط الآلام

بالحقيقة إن غيرته الزائدة لم ُتشعِرُه بالآلام المصاحبة لحياته في الفضيلة. ولم يكن ذلك الأمر هو الوحيد العظيم في حياته، وإنما أيضاً لم يكن له دافع خفيٌ وراء سعيه نحو الفضيلة. إننا نتخاذل في تَحمٌل الآلام من أجل الفضيلة حتى لو عُرضت علينا المكافأة مُقدٌماً، لكن بولس احتضن الآلام بمحبة بلا مُقابل، وتحْمَل بكل فرحٍ ما اعترضه من صعوبات وعوائق في طريق الفضيلة. فلم يتضايق من ضعف الجسد أو ضغوط المسئولية أو بطش العادات ولا من أي شئ آخر. عِلاوة على ذلك فاقت مسئولياته كل مهام القادة والملوك، لكنه كان يزداد في الفضيلة يومياً. وصار ازدياد المخاطر سبباً في التهاب غيرته بالأكثر، فقال “أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام” (في 3: 13).

 

مفاهيم جديدة للموت والألم والفقر الاختياري

عندما اقترب منه الموت دعا الجميع لمشاركته هذا الفرح، قائلاً: “وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضاً، وأفرحوا معي” (في 2: 18). فكان يتهلل فرحاً في الضيق والألم وفي كل مذلة. كتب إلى أهل كورنثوس: “لذلك أُسَر بالضيقات والشتائم الضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح” (2كور12: 10). ودَعا ذلك أذرع العدالة موضحًا أنها مصدر مثمر لفائدته، فصار لا يُهزَم أمام أعدائه. وبالرغم من الضرب والاضطهاد والشتم كان كمن في عرسٍ مبهجٍ، مُصحِحاً الكثير من مفاهيم النصرة، متهللاً فرحاً، شاكراً لله بقوله: “ولكن شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين” (2كور2: 14). وفي كرازته ازدادت كرامته بقبوله الإهانات والاضطهادات، ناظراً للموت كما ننظر نحن إلى الحياة، وقابلاً للفقر كقبولنا للغنى، ومتمتعاً بالأتعاب لسعينا نحو الراحة، ومُفَضِلاً الضيقة عوض عن اللذة، ومُصلياً لأجل أعدائه أكثر من المصلين ضدهم. فقلب موازين الأمور، أو بالأحرى لنقُل إننا نحن الذين غيٌرنا تلك النُظم. إذ أنه ببساطة حافظ على شرائع الله، لأن ما سعى إليه يتفق مع الطبيعة البشرية أما سعينا نحن فهو ضد الطبيعة، والدليل على ذلك أن بولس مع من أنه إنسان إلا أنه جَدٌ فيما كان يعمله وليس فيما نحن نعمله. شئ واحد فقط كان يخافه ويخشاه، ألا وهو التعدٌي على شرائع الله. فسعى نحو لذةٍ واحدة فقط وهي أن يكون موضع سرور الله، ليس بمعنى السرور الحاضر فقط، بل السرور العتيد أن يكون أيضاً.

 

محبة المسيح الفائقة

لا تحدثوني عن المدن أو الشعوب والملوك والجيوش والمال والولايات والسلطات، فهذه كلها فانيات، ولكن اهتموا بالفرح السماوي لتروا المحبة الفائقة التي في المسيح.

مجد الملائكة ورؤساء الملائكة وأي شئ آخر أقل شأناً عنده من محبة المسيح، فأمتلك في أعماقه الداخلية أعظم ما يمكن للإنسان امتلاكه، أي محبة المسيح التي بها اعتبر نفسه أسعد الناس، وبدونها يفقد كل رغبة في أية سلطة أو مبادئ أو قوات. بهذا الحب فضل أن يُحسب ضمن الرُتب الوضيعة على أن يُحسب ضمن أعظم النبلاء بدونه. كان العقاب الوحيد في نظره أن يتجرد من هذا الحب، فذاك هو الجحيم نفسه، والتأديب والشر الأبدي. على عكس ذلك فإن امتلاك محبة المسيح هي السماء، وهي الحياة، وهي العالم كله، وهي أن يصير ملاكاً، وهي الفرح الحاضر، والفرح المقبل، وهي أن يصير ملكاً، وهي الوعد، وهي الصلاح الأبدي.

خارج هذا لا يوجد أي شيء آخر سواء كان مُبهجِاً أو مؤلماً. احتقر العالم المنظور كله كأنه ورقة شجرة جافة متعفنة، فالطغاة والناس المملوءين بنار الغضب في نظره مجرد حشرات صغيرة، الموت والاستبداد والاضطهاد في نظره كلهو الأطفال، طالما أنه من أجل المسيح. فأحتضن كل هذا بفرح، واعتبر قيوده في سلاسل جائزة أثمن وأغلى من تاج نيرون، فصار سجنه سماءً واحتمل جراحات السياط باشتياق كاشتياق المتسابق نحو الجائزة، لذلك دعى الآلام، دعوني أشرح ما أقصده بذلك.

إن المكافأة الحقيقية هي أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 1: 23) فذاك أفضل من أن يكون في الجسد، لأن تلك هي الضيقة والتجربة. وبالرغم من ذلك فضٌل الضيقة عن المكافأة، وقال أنها أكثر ضرورة له. أن يكون محروماً من المسيح فذاك هو القضاء المؤلم الذي يفوق كل ألم، ولكن من أجل المسيح فضل أن يكون هو نفسه محروماً منه عن أن يكون مع المسيح.

قد يقول قائل أن تلك الأشياء كانت موضع سروره بسبب المسيح. وأوافق على أن الذي يحزننا كان يفرحه… إذاً لماذا أذكر الأخطاء والإهانات؟ لأن آلامه الدائمة جعلته يقول: “من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب” (2كور 11: 29).

 

مسرته في شركة آلامه للآخرين

يُقال أنه يوجد نوع من السرور مستتر في عمق الألم. فكثير ممن يحزنون لموت أبنائهم يجدون عزاءً إذا ما تُركوا وحدهم مع دموعهم، لكن إن حسبوا تلك الدموع يشعرون بازدياد عمق الألم. بالمثل فإن بولس لم ينقطع عن اكتشاف العزاء من خلال البكاء ليلاً ونهاراً. ولم يحزن أحد قط على آلامه مثلما حزن هو على آلام الآخرين. ما أعظم اهتمامه بخلاص اليهود، وذلك حينما صلى أن يُحرم من مجد السماء لو كان ذلك سبيلاً لخلاصهم (رو 3:9)! ألا يوضح ذلك أن فقدان الآخرين لخلاصهم أشد ألماً من فقدانه خلاص نفسه، وإلا لِما صلى كما ذكر. لقد فضل أن يكون محروماً واستمد عزاءً عظيماً من هذا الفكر، ولم يكن هذا فكراً طائراً، بل كان اشتياقاً متأصلاً في أعماقه، عبر عنه قائلاً: “إن لي حزناً عظيماً ووجع في قلبي لا ينقطع” (رو 2:9). إذاً بماذا نقارن بولس الذي يئنٌ يومياً من أجل كل إنسان في هذا العالم، من أجل كل جنس ومدينة، من أجل كل نفسٍ؟ لقد كانت عزيمته أشدٌ قوة من الحديد، وأكثر حزماً من الصلب، فبأية كلمات تصف هذه الروح؟! هل نشبهُها بالذهب أم بالصلب؟ إنها أكثر احتمالاً وأقوى من الصلب، وأنقى وأثمن من الذهب والماس، فبأي شئ يمكن مقارنتها؟ لا شيء! لأنه لا يمكن مقارنتها! فإن كان الذهب في نفس قوة الصلب أو أن الصلب له نفس قيمة الذهب لأمكننا وضع أُسس للمقارنة، لكن لماذا نقارن نفس بولس بالصلب أو الذهب؟ ناشد العالم كله وحينئذ ستجد أن العالم كله غير مستحق لنفس بولس، وإن تطابق هذا القول على الذين هاموا في البراري لابسين المسوح وساكنين في شقوق الأرض (عب 11: 37-38)، ينطبق هذا القول على نفس بولس.

فإن كان العالم لا يستحق فمن يستحقه؟ ربما السماء؟ حتى إن هذه وُجدت لا تتوافق معه، لأنه إذ فضٌل محبة الرب على السموات وسكانها، فبالأولى إن الرب الذي يفوق صلاحاً بقدر ما يفوق الصلاح على الخطية سيُفضَله عن سموات كثيرة! لأن حب الله لا يمكن مقارنته بمحبتنا، لأنه يفوقه كثيراً وبشكل لا يُنطق به!

لنتأمل ما تمتع به بولس من نِعم ومواهب، فقد اختطف إلى الفردوس إلى السماء الثالثة وتمتع بالشركة في كلمات سرائرية لا ينطق بها (2 كو 12: 2، 4)، فاستحق كل كرامة. لأنه حينما جال في الأرض كان كمن بصحبة الملائكة، وبالرغم من فخاخ الجسد المائت كان ملائكياً في نقاوته، وبالرغم من ضعف بشريته جاهد ليصير ملائكياً كالقوات العلوية، وكان سلوكه في العالم كمن يسكن على جناحي طائر وككائن غير قابل للفساد. احتقر كل المصاعب والأخطار. احتقر كل شئ على الأرض، كمن امتلك السماوات، لمن اختبر رؤية سرمدية، كمن عاش وسط الملائكة في السماء. إن مهمة الملائكة كانت خدمة البشر وحراستهم ولكن لم يستطع أحد القيام بالمهام الخاصة لكل فرد واحتياجاته الخصوصية مثلما فعل بولس لكل الأرض.

 

نعمة الله لا تقلل من كرامته!

أوافقك لو اعترضت أن بولس لم يعمل هذه الأشياء بنفسه، ولكن حتى وإن لم يحقق هذه الأعمال بقوته الشخصية فذلك ليس ذلك مبرٌراً للحد من تكريمه لأنه أثبت جدارته واستحقاقه للنعمة المُعطاة له.

كانت رسالة ميخائيل هي الاهتمام بشعب اليهود (دا 1:12)، أما مهمة بولس الرسول فكانت للأرض والبحار المسكونة منها وغير الساكنة، وهذا لا يعنى التقليل من رسالة الملائكة! حاشا! لكننى اوضٌح أن الإنسان يمكنه التمتع بشركة الملائكة بل يصير في نفس الرتبة والمكانة.

 

سلطانه الرسولي الفائق

لماذا لم تُرسل الملائكة في مهمة الكرازة بالإنجيل؟ لكي لا يكون للإنسان عذر في كسله أو إهماله، فيُبَررَ نفسه بحُجة اختلاف الطبيعة البشرية عن الملائكية، لأن الفرق عظيم. ومن العجيب حقاً إن الكلمة المنطوقة من لسان ترابي لها القدرة على اقتلاع الموت، وغفران الخطايا، وتعيد النظر للعميان، وتحول الأرض سماءً، وهذا يجعلني أتعجب من قدرة الله ويزداد إعجابي وإكرامي لغيرة بولس لنواله تلك النعمة وتهيئة نفسه وإعدادها حتى يستحق نوالها.

إني أحثك لا لتتعجَب، بل لتقتدي بالمثال الأعلى للفضيلة، وبهذه الطريقة تستحق أن تُشاركه في إكليله، ولا تُفاجأ بأنه يمكن لأي شخص أن يصير كبولس في خدمته لو تمثٌل واقتدى به وليردد في قلبه كلمات بولس: “قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً” (2تي4: 7، 8). رأيت كيف يدعو الجميع لمشاركته في إنجازاته، وبالتالي فالمكافأة أيضاً معروضة ومفتوحة للجميع. فلنجتهد جميعنا لنثبت استحقاقنا للبركات الموعودة لنا، ولننظر ليس فقط لعظمة ومجد الحياة في الفضيلة، لكن نتأمل أيضاً في ثبات الهدف الذي من خلاله نحقق هذه النعمة. ولنعرف أن بولس لم يختلف عن طبيعتنا بأية حال من الأحوال، ولكنه كان مثلنا، وهذا يجعل ما يبدو صعباً ومستحيلاً بالنسبة لنا قد صار سهلاً وخفيفاً، لأنه بعد هذا الوقت القصير من العمل والجهاد سنرتدي إكليل عدم الفساد الأبدي بواسطة نعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والكرامة الآن وكل أوانٍ وإلى أبد الآبدين. آمين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *