سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

دراسات في اللاهوت الروحي

 

للأب روبير بيولاي الكرملي

الجزء الرابع - الصلاة أو الألفة مع الله

   

 

تقوم قداسة المؤمن على ان يعيش كأبن لله، حياة المسيح المقدسة نفسها. ولم تكن حياة يسوع تتكوّن بِأعمال صالحة فحسب، بل بصلاةٍ ايضاً. فالأنجيل يذكر مراراً ان يسوع كان يعتزِلُ ليصلي.

أولاً: صلاة يسوع

تبدو صلاة يسوع مرتبطة اولاً بأداء رسالته. فالانجيل يذكرها في الاوقات الاكثر اهمية في حياة يسوع مثل: وقت عماده (لوقا 3: 21)، وقبل المباشرة برسالته العلنية (لوقا 4: 1-13)، وقبل ان يعلم تلاميذه صلاة "أبانا الذي" (لوقا 11: 1)، وقبل تعليمهِ على خبز الحياة (متى 14: 23 ويوحنا 6: 15 )، وقبل آلامه (لوقا 9:29 و 22: 39-45 ). إذن كان يسوع يريد ان يعمل دوما بالاتحاد التام مع إرادة الآب. غير ان هذه الاوقات المتفارقة من الصلاة المحضة (الخالصة)، كان اساسها ألفةٌ فريدة مستمرة مع الآب. ولقد عّبر يسوع عن هذه الألفة بعبارة "أبا" (أي ابتا، أي أبي مع شيء من معنى "بابا") في اللغة الارامية التي كان المسيح يستعملها. راجع:

X.Leon-Dufoor, DicTioNNAiRE ou NouvEAu TEsTAMENT, p. 94

ان هذه العبارة تشير في آنٍ واحد الى الخضوع الحُبّي الذي كان يربط يسوع بالآب، الآب الذي كان يسوع يحيا به (يوحنا 6: 57)، والى معرفة متبادلة بينهما من النوع الفذ (متى 11: 27)، والى حب كلي من الآب "للأبن الحبيب" (متى 3: 17، يوحنا 15: 9)، ومن الأبن للآب (يوحنا 14: 31)، والى اتحاد اعلى من الصعيد الأنساني (يوحنا 10: 30 و 10: 38... الخ).
انه من المستحب، بالنسبة لنا ايضا، ان تصبح الصلاة ليس فقط عدداً معينا من أفعال منفصلة بل طابعاً تتسم به حياتنا كلها (uNE MANiERE DE vivRE) وان تكون حياتنا "حياة مُصلية". هناك مقطع من الرسالة الى أهل رومة يتكلم فيه القديس بولس طويلاً عن الجهاد الروحي. وفي آخر هذا المقطع يذكر الصلاة الدائمة كشيء مرتبط حتما بالزهد: "صلوا كلّ وقتٍ في الروح مبتهلين وتنبهوا لذلك "(رومة 6: 18).

صلوا كل وقتٍ في الروح أي في "محيط" الروح القدوس الذي يحيط بكم هبوبهِ المستمر... ذلك الروح الذي يقود حياتكم (رومة 8: 14) والذي يجعلكم تنادون انتم ايضاً: يا أبتا (رومة 8: 15). ان المثل الأعلى للصلاة المستمرة يُذكرُ مراتٍ عديدة في رسائل القديس بولس: "صلوا بلا إنقطاع" (1 تس 5: 17). وكان هذا ما كان يفعله هو نفسهُ (كول 1: 9، 2تس 1: 3...الخ).

كيف يستطيع المؤمن ان يصلي بلا انقطاع؟؟؟ منذ القرون الاولى كان المسيحيون يبحثون على اجوبة لهذا السؤال، وقد اجابوا فعلاً ولكن بطرق مختلفة منها. ففي القرن الرابع أكّد ثيودورس المصيصي، معلم الكنيسة السريانية الشرقية، انه مادام الأنسان يعمل لأجل الله فأنه يصلي. هذا ما يذكره أسحق النينوي (في القرن السابع) وهو يسمح لنفسهُ الا يوافق "المعلم" في هذا الصدد: "ان المفسّر الطوباوي يعتبر هو الآخر الاعمال الصالحة صلاة. ولكن من البديهي ان الصلاة غير الأعمال التي نعملها" (نشرة p. 168 , BEDJAN ).

ان مثل هذا المفهوم للصلاة الدائمة هو ايضاً مفهوم بعض الآباء اليسوعيين اللذين يسعون الى منح طاع الصلاة لجميع الأعمال التي ستجري في النهار، وذلك عن طريق تقدمة صباحية لجميع هذه الأعمال. ومسألة الصلاة الدائمة تكون ايضاً موضوع كتاب "السائح الروسي" الذي وجد حلها في ممارسة "دُعاء يسوع" التي سنتكلم عنها فيما بعد (سائح روسي على دروب الرب، حريصا 1964).

لقد ذكرت من الآن هذه النقطة المهمة لأوضح اننا سوف لن نقصد فقط، بعبارة "الصلاة"، اوقات معينة (منفصلة) مُكرسة للصلاة الخالِصة، بل ايضاً نمطاً عاما للعيش في صحبة الله مع "ذكره الحي في القلب". فسندرس هذين الوجهين للصلاة بالتوالي.
ملاحظة: ان ما سنقوله عن الصلاة (وخاصة الصلاة الدائمة) هو بمثابة غاية مُثلى يستطيع الجميع التقرب إليها اكثر أو أقل حسب الدعوات الخاصة أو حسب مراحل الحياة. فأن الصلاة المسيحية هي واحدة في ذاتها: انها للرهبان والكهنة والعلمانيين.

 

ثانياً: الصلاة الخالصة في أوقاتٍ معينة اي مدة من الوقت نكرسها لنكون مع الله مكلمين اياه او مفكرين به او ناظرين اليه وحده.
أ ) لِنذكر بعض التعريفات المشهورة والجارية للصلاة بصورة عامة ولا سيما الصلاة الخالصة:

- رفع الروح (Nous) نحو الله. (افغاريوس في القرن الرابع).

- حديث موجه الى الله (القديس اوغسطينوس 354-430).

- الصلاة الحقيقية البقاء في الأنذهال أمام أسرار الله. (يوحنا دالياثا القرن الثامن في العراق).

- صلة ودية تتم على انفراد مرات عديدة مع من نعرف انه يحبنا. (القديسة تريزة الكبيرة القرن السادس عشر).

- حركة للقلب، نظرة بسيطة نلقيها الى السماء، صرخة شكر وحب في وسط المحنة كما في وسط الفرح. (القديسة تريزة الصغيرة، القرن التاسع عشر، اخبار نفس ص 277).

- حوار مع الله (عند الكثير من المعاصرين)

انهُ من الصعب ان نقدم تعريفا يضم جميع أوجه الصلاة الأساسية، فلنأخذ من التحديدات السابقة النقاط التالية:

- ان الصلاة علاقة مباشرة بالله، مع الوعي باننا متوجهون اليه، أما عن طريق الكلام واما عن طريق حركة القلب او نظرة الروح واما بصرخة النفس (في جميع التعريفات).

- ان هذه العلاقة هي علاقة متبادلة ( القديسة تريزة الكبيرة ومفهوم الصلاة كحوار).

- بخصوص إعتبار الصلاة حواراً مع الله لنذكر من الآن ان هذا المفهوم ينطبق بصورة واضحة على القراءة التأملية للكتاب المقدس (كلام الله الموجه الى الأنسان)، عندما يدفع التأمل الأنسان الى الجواب. اما في الأنواع غير التأملية من الصلاة فَتُعرَّف العلاقة المتبادلة بصورة أكثر حقيقية وواقعية عن طريق مفهوم "الحضور المتبادل" وخاصة عن طريق "تبادل النظرات": إذ يجعل الأنسان نفسهُ حاضراً أمام الله الذي هو دوماً حاضر بالقرب منه بل فيهِ، وإذ ينظر الى ابيهِ السماوي الذي ينظرُ إليهِ هو الآخر بصورةً مستمرة.

ب ) أوجه الصلاة

هناك طرق مختلفة لممارسة الصلاة. إنها جميعها صالحة وعلينا ان نمارسها بحرية وحسب ميلنا الشخصي. فالصلاة تستطيع ان تكون (أو يجب أن تكون)، مجال حريةٍ حقيقية في حياتنا. فليس المفروض ان تأتينا بمشاكلٍ جديدة بل على عكس ذلك يجب أن تُدخِلُنا الى حيث لا توجد أيةُ مشكلة وحيث كل شيء هو بسيط. أعني تُدخلنا في اشعاع حب الله لنا. ولكن علينا مع ذلك ان نتعلم تدريجياً وبصورة طبيعية أشكال الصلاة الأكثر عمقاً.

ج ) التأمل (MEDiTATioN)

هذا تعريفه كما جاء في كتاب "أصول الحياة الروحية" (دير الحرف/ لبنان 1971): "تركيز الافكار حول موضوع روحي معين من اجل تفهم معانيه وتبنيه" (ص 224).

في التقليد الروحي الشرقي يعتبر التأمل ممارسة تُهيء للصلاة أكثر منه شكلاً من اشكال الصلاة نفسها (نفس المرجع ص 224). غير انه من الممكن ان نعتبر التأمل نوعا من الصلاة اذا كان التأمل لا يبقى على صعيد الأفكار فقط (او العاطفة الدينية التي قد تسببها هذه الأفكار)، بل يفضي الى كلام نوجهه الى الله. فإنه من المهم أن نوضح نهائياً معنى عبارة "الصلاة": انها علاقة مباشرة بالله مع الوعي باننا متوجهون اليه، كما مع شخص نكلمه أو ننظر اليه بأنتباه. وفعلاً فأن مجرد التفكير في شخص لا يجعلنا في علاقة مباشرة معه (إذ نستطيع أن نفكر في شخص ونحن بعيدين عنه). غير ان الكلام أوالنظر يوجهاننا نحوه مباشرةً ويفترضان حضوراً فعلياً.

وكذلك فأن التامل الذي يبقى على صعيد الأفكار قد يجعلنا نفهم مثلاً ما هي ارادة الله، دون ان نكون مستعدين حقاً للألتزام بتطبيقها. ولكن الكلام الموجه الى الله الحاضر امامي، او نظري الذي يلتقي بنظر الله الاب اليّ، يلغيان حتماً مثل هذا النقص في الصدق.

يقول A. BLooM: "يُعلم الاباء الشرقيون ان الأفكار التقوية وحتى التأملات اللاهوتية الاكثر عُمقا وسموا، اذا ظهرت أثناء الصلاة فيجب ان تعتبر تجربة وتُطرد. لأنه لشيءٌ أحمق ان يُفكر المرء في الله وينسى انه في حضورهِ. ان جميع مُرشدي الكنيسة الأرثدوكسية الروحانيين يحذروننا من إستبدال اللقاء مع الله بالتفكير فيه" (LiviNG PRAYER , TRaD. FRANSAiSE , P. 66).

ان العلاقة بين التامل والصلاة بصورةً عامة تزداد إبهاما بسبب سوء اختيار بعض العبارات العربية المستعملة في الكتب الروحية، فهكذا تستعمل عبارة "التأمل" دوماً حيث كان من المفضل أن تستعمل عبارة "الصلاة الصامتة ". فالكلمة الغربية المقصودة ههنا هي (ORAiSON, oRAcioN) التي تعني في الحقيقة "صلاة". غير إنها تُستعمل في الغرب فقط للأشارةِ الى الصلاة الشخصية (تميزاً لها من الصلاة الجماعية أو اللفظية وخاصةً الصلاة الطقسية). إنها إذا صلاة صامتة على العموم ولا تقوم حتماً على أفكار مثل التأمل.

وكذلك تُستعمل عبارة "الصلاة العقلية" مكان "الصلاة النفسية" أو "الروحية". فكلمة "عقل" تُترجم هنا الكلمة اليونانية Nous (في اللاتينية MENS) التي تعني في التقليد الروحي المسيحي الروح والذهن العميق في آنٍ واحد. (راجع "الذهن" و "العقل" أدناه ص 41 و42). فالمقصود هنا هو ايضاً الصلاة الداخلية، الشخصية، وليس بالضرورة صلاة تعتمد على التعقلات.
يبدو لي أيضاً أنه من المستحسن عدم إستعمال عبارة "عاطفة" للتعبير عن بعض الأختبارات الروحية في الصلاة (كما جاء في الترجمة العربية لكتاب تانكره – خلاصة التصوف المسيحي – حيث تُذكر "عاطفة العبادة". الجزء الأول ص 200). أن عبارة "إحساس" أو "شعور" تناسب أكثر ما هو "روحي" أكثر منه "نفساني" لأنها عبارات ذات معنى عام.

د ) الاستعدادات الداخلية للصلاة

الصلاة تتميز اذا بإتجاه الشعور نحو الله مباشرةً. والتأمل يُعتبر صلاة بقدر ما يؤدي الى مثل هذه العلاقة مع الله. وهناك ايضاً طرق اخرى (اكثر مباشرة) لتحقيق هذه العلاقة. غير إنها تفترض جميعها نفس الإستعدادات الداخلية. ومنها:

1- الصدق

عندما نُكلم الله حقيقةً لا نستطيع ان نخدعهُ ولا أن نخدّع أنفسنا (كما نفعل مراتٍ عديدةَ عندما نحاول أن نُبرر أنفسنا أمام ضميرنا). وحينما تلتقي نظرتنا بنظرة الله (بالإيمان) نعرف أن نظرة الله تخترق أعماقنا، وأننا لا نستطيع ان نخفي عليه اي شيء. انه من المستحيل ان نقول له: "أودُ لو أحببتُكَ مثل إنسانٍ قديس"، إذا لم يكُن هذا صحيحاً تماماً. ان الصلاة الحقيقية تفترض ان نكون فيها صادقين تجاه الله وتجاه أنفسنا كما لو كنا في ساعة موتنا ونستعد للّقاء مع الله وجها لوجه.

2- تواضع الخاطىء

سيؤدي هذا الصدق بالضرورة الى الشعور بِاننا خطأة، بأفعالِنا وبصورة أصلية (راجع ما سبق، موضوع (3) الزهد / الأنسان الخاطىء). فالصلاة ستفترض ايضا ان نكون صادقين في استعدادنا للتوبة الفعلية بمعونة الله وفي إحياء اتجاهنا الأصلي نحو الله في وقت الصلاةِ نفسها. أن التوبة بالمعنى الاصلي للكلمة هي رجوع (بالعربية والآرامية والعبرانية) وتبديل العقلية (باليونانية: METANOiA)، اي الرجوع الداخلي الى الله.

ان "دُعاء يسوع" البزنطي يكرر على الدوام هذه الكلمات: "يا يسوع ابن الله، ارحمني انا الخاطىء". وكان الأب أرسينيوس، وهو احد الرهبان الأولين المعروفين (في صحراء مصر في القرن الرابع) يبدأ كل يوم صلاتهُ بهذهِ الكلمات:
"يارب، لم أعمل قط شيئاً صالِحاً في عينيكَ. ولكن أعطني بنعمتِكَ أن أباشر اليوم السير في الطريق!"

وهذه هي بعض أقوال يوحنا الدالياثي (مؤلف روحاني كبير كان يعيش في العراق في القرن الثامن ضمن الكنيسة السريانية الشرقية):
"التوبة باب ملكوت النور الموجود في داخلنا"...

"اتوسل الى جميع رفقائي الخطأة النجسين ألّا ييأسوا من الحياة بسبب ذنوبهم، بل ان يقتربوا الى الله الكلي الرحمة بثقة لا يُضعفها أيُّ شكٍ... لأنه لا يوجد حد لرأفته ولا قياس للمحبة التي يظهرها تجاه الضائعيين اللذين يرجعون الى بابِ رحمته.
"ولكن اذا كان احد يزدرى معرفة الله الصحيحة ويستسلم للخطيئة وهو يعتمد على انه سيتوب فيما بعد وعلى ان الرحمة الالهية ستغفر له، فهذا لن تُقبل توبته ولا تستجيب له الرحمة، لأنه قد أستهزء بقضاء الله.

"أما الذي كان مستعدا ليتصرف بطهارة وإستقامة، غير انه أنزلق في الخطيئة بسبب معرفته الناقصة أو بسبب ضعفه ومهارة الشياطين وعُنفهم، فهذا، مهما كانت خطيئته ومهما كان عدد خطاياهُ، غدا كان يستنكر الشرّ بشدة ويلتزم بالتوبة صارخا الى الله... وطالبا الغفران بقلبٍ مُتألم: فأن رحمة الله ترحب به وتعطيه حرية الألفة معه بثقةٍ لا تتزعزع.

"ذلك لأن الله يشتاقُ الى رجوع الخاطىء بشوق أشد من فرح الأم التي ترى إبنها الوحيد الحبيب، بعد ان دفَنته، يقوم من بين الأموات في اليوم نفسه!"

وحتى ان كان عزمنا غير قوي كفاية فنستطيع ان نصلي بصدق ايضا قائليين على مثال يوحنا دالياثا: "يا أبانا الرؤوف إجبرني على التقرب اليك..."

"ليس لي الندامة التي تعيد الأبناء الى بيت أبيهم... فأخرج انت لِطلبي وأدخِلني الى حظيرتك مع خرافِك المحبوبين..."
علينا ان نطلب من الله القداسة والقوة لنجسّدها في حياتنا ونحن نقبل مقدما ما سوف يكلفنا الأمر، حتى اذا لم نمتلك الان هذه القوة. ومن هنا العلاقة المتينة بين الصلاة والتوبة. فسنصلي لنطلب التوبة الفعلية العملية. والإرادة الصادقة في هذه التوبة الفعلية هي شرط الصلاة الحقيقية.

3 - الصلاة لاجل الله نفسه

أن آخر اقوال يوحنا الدالياثي التي نقلناها كان يذكر إشتياق الله نفسهُ الى أن نتوجه نحوهُ. ففي بدء الصلاة يجب ان نتذكر ان الله ينتظرنا فيها. وأن نظره متوجه بلا انقطاع الى كل واحد منا بحبٍ لا حدّ له. لأن كل واحد منا مهم بالنسبة له بصورة غير متناهية (راجع كتاب "صل لتحيا"، للأب فوايوم ص 30).

والقديسة تريزة الصغيرة: "يحب الله كل مخلوق كما لو كان الوحيد في العالم" (المحادثات الاخيرة). ففي الصلاة نحضر أمام الله لأن الحب بالنسبة له أيضاً يتطلب الألفة.

اننا تعودنا على أعتبار الله كائناً كاملاً، دون حاجة الى غيره، قد خلق الأنسان ليسعده دون ان يتأثر حقيقةً بما يحدث له. ذلك لأن التأثر يفترض التغيّر مما يناقض كمال الله المطلق. فلابد ان الله غير قابل الأنفعال. هذا ما يُعلمنا التفكير الفلسفي (أو بالأحرى تفكير فلسفي معين) عن الله... في وقت أن الكتاب المقدس يوحي الينا بالعكس، فأن الله يحبنا، أنه يرحمنا، أنه يتعاطف... لابد ان يكون لهذه العبارات معنى. وقد يكون الموقف الفلسفي الصحيح ما ذكرهُ المجمع اللاتراني الرابع (سنة 1215): "لا نستطيع ان نؤكد تشابها ما بين الخالق والخليقة دون ان نؤكد في الوقت عينه اختلافا اكبر من التشابه".
فعندما نقول ان الله غير قابل الأنفعال فهذا يعني ان لا انفعاليته تختلف عن مفهومنا الأنساني اكثر مما تشبهه. وكذلك عندما نقول ان الله قابل التأثر بالحب فاننا نقصد ان هذا التأثر يختلف عن التأثُر الانساني اكثر مما يشبهه. ولكن هذا التأثر الألهي موجود.
وقد يكون أشد في نوعه من كل تأثر انساني. انه سر حياة الله الذي لا نستطيع ان نخمنه الا بالروح القدس وليس بالأفكار الأنسانية المحضة.

"ان الكلام عن الله" إذا كان خالياً تماماً من طابع المُفارقة، فيجب أن يُعتبر هذا الكلام مُشتبهاً فيهِ (RANsois VARiLLoN, LA SouFFRANcE oE DiEv, p. 11).

انه من المهم أن نعرف إن الله يفرح بوجودنا معه. ولهذا الأعتقاد نتيجة عملية. وهي أخلاصنا لِممارسة الصلاة حتى اذا كانت صعبة او دون حرارة في بعض الأوقات.

فعلينا ان نتجاوز بأرواحنا ما نحس به من عواطف نفسية، وأن نفرح في اعماقنا بأننا بحضورنا في الصلاة، لا نفعل ما يريحنا نحن بل نتعلم ان نُحب الله لِذاتَهُ.

هـ) الكلام الموجه الى الله

يتم هذا الكلام بكلمات نتلفظ بها في داخل أنفسنا أو بصورة مسموعة كما في الصلاة المشتركة.

وذلك لنشكر الله: "أريد ان أباركك كل يوم وان أُسبحُ اسمك أبد الدهور" مز 145: 2

او لنمدحه: " أيها الرب سيدنا ما أعظم أسمك في الأرض كلها " مز 8: 2

أو لنؤكد له حبنا وثقتنا: "احبك يارب، يا قوتي يا مُخلصي" مز 18: 2

او لنطلب مساعدته.

 

صلاة الطلب

انها شكل الصلاة الأكثر بدائية وعامة. غير انها تستطيع ان تكون أيضاً أعمق تعبيرعن الألفة مع الله وعن بساطة وثقة الأبناء تجاه أبيهم.

انها الصلاة التي يتكلم السيد المسيح عنها غالبا، فنستطيع ان نطلب، لنا ولغيرنا، التخلصَ من الخطيئة، المزيد من المحبة، معونةَ الله في عملٍ ما والنجاح فيه، الشفاء من مرضٍ جسدي... الخ.

من اقوال يسوع عن صلاة الطلب:

- متى 6: 7-8: "أن أباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسألوه". فلماذا نطلب اذن؟

هل نطلب لأن الله بحاجة الى ان نثير شفقته علينا؟ كلا، فأنه يحب كل واحد منا حبا غير متناهيا ودون شرط.

كارل راهنر: "كيف يمكن ان تؤثر صلاة الطلب على الله من الخارج؟ انما في تعمقٍ أوفر نرى أن السؤال هو مطروح على غير حقيقتهُ، إذ أنهُ يخلط بين أزلية الله (حيث يوجد كل عمل وكل تفكير الانسان حقيقة وبالتالي طلباتنا ايضاً)، وبين أوضاع الانسان الزمنية. (المعجم الكاثوليكي ص 188).

"أن أزلية الله يجب ان نفهمها كمدى مطلق بموجب جوهره، بدون تسلسل، بدون بداية وبدون نهاية، وهو حاضر دائماً ومُتمَلِكٌ على ذاتيتهُ بصورةٍ مطلقة، قائمٌ في ذاتِهِ لا قبل لهُ ولا بعد. فالازلية إذن هي ملءُ الوجود بالذات. (راجع كارل راهنر: المعجم ص2).

فلا يوجد لدى الله "قبلَ" (صلاتِنا) ولا "بعد" صلاتنا، وليس غاية صلاة الطلب ان نجعله يغير موقفه (!). فأن الله، بفعل أزلي واحد، يرى معا حاجاتِنا وصلواتِنا ويهتم بنا في آن واحد. وإذا أراد ان يضمن في فِعله الأزلي هذا صلواتِنا (التي تجري في الزمن بالنسبة لنا)، فسبب ذلك أنه يريد أن يشركنا في تدبيره لِما يخصنا لا ككائنات غير حساسين وغير مسؤولين بل ككائنات واعين وأحرار (راجع أعلاه مبدأ "الطابع التعاوني":SYNERviE).

وينطبق نفس المبدأ على صلواتنا لغيرنا. فأن الله يريد أن يشرك الأنسان في عنايته وحبه تجاه الآخرين. انه يحب ان "نتعاطف" معه في صلواتنا لهم. وهذا هو أساس معتقدنا "بشفاعة القديسيين".

- لوقا 11: 9-11 "كل من يسأل ينال، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له... "لماذا اذن لا تستجاب الكثير من صلواتنا؟ لأنها ينقصها بعض الشروط:

1- ان نبحث عن ملكوت الله قبل كل شيء: "اطلبوا اولا ملكوت الله وبره وهذا كله (كل ما تحتاجون اليه) يزاد لكم. متى 6: 33)
2- لأنه ينقصنا الايمان: "كل شيء تطلبونه، آمنوا انكم قد نلتموه، يكن لكم" مر 11: 24. ان الايمان المقصود هنا ليس مجرد الأيمان بقدرة الله أو قدرة المسيح بل الثقة بان الله قد أستجاب لنا لأنه يحبنا. ان مثل هذا اليقين يُعطى في الحقيقة من الله نفسه وبصورة استثنائية. بحيث ان الله يعطي مثل هذا التأكد عندما يريد بالضبط أن يستجيب لنا. وقد يقدم لنا السيد المسيح في كلامه هذا نوعا من اللغز بخصوص ماذا يمكن ان تكون صلاة الأنسان اذا غيَرَه الروح القدس تماماً. غير ان صلاة الطلب الاعتيادية يجب ان تكون صلاة المسيح نفسه في بستان الزيتون: "... ولكن لا كما انا أشاء بل كما انت تشاء!" ( متى 26: 39).

انها تسليم الامر لله واثقين بانه يعرف أحسن منا ما هو خيرنا الحقيقي وخير اللذين نصلي من اجلهم وبأنه يُسخّر كل شيء لخير اللذين يحبونه" (رو 8: 28)

ان مسألة استجابة الصلاة تتعلق كلها، على ما يبدو لي، بهذه الكلمات الواردة في أنجيل لوقا:

"أي أب منكم يسأله أبنه بيضة أعطاه عقربًا؟ فما اولى أباكم السماوي بان يهب الروح القدس للذين يسألونه" (لو 11: 11-13)
فالمسأله هي عمق اتحادنا بالروح القدس (الذي يجب ان نطلبه اولاً).

فالروح القدس هو الذي يجعلنا في علاقة بنوية مع الآب (رو 8: 15)

الروح القدس هو الذي يجعلنا نبحث اولاً عن أرادة الآب (مثل المسيح متى 26: 39).

هو الذي يوحي لنا احيانا بأن نطلب ما يوافق مشيئة الله وخيرنا الحقيقي فنُستجاب "يجيئ الروح أيضاً لنجدة ضُعفنا" فنحن لا نعرف كيف نصلي كما يجب.

ولكن الروح يشفع لنا عند الله... والله الذي يرى ما في القلب يعرف ما يريده الروح وكيف انه يشفع للقديسين بما يوافق مشيئته. (رومة 8: 26-27).

والروح القدس هو الذي يعطينا في هذه الحالة الأيمان البنوي الذي لا يتردد: "اذا كان غير مرتابا في قلبه، بل مؤمنا بأن ما يقوله سيكون، بل كان له هذا". (مرقس 11: 23)

خلاصة القول ان النصوص الأنجيلية على الصلاة التي تُستجاب حتما تفترض قداسةً كبيرة عند الأنسان. ان المسيح يقدم مثل هذه الصلاة كحقيقة خاصة بملكوت الله (الذي لم يأت بعد بكامله) وكحقيقة سيعيشها الانسان بقدر كمال أتحاده بالروح القدس. ولكن مهما كانت في الوقت الحاضر درجة قداستنا الفعلية فنستطيع دوما ان نطلب (وحتى علينا ان نطلب لأننا أبناء الآب السماوي) ونحن نعمل فِعل أيمانٍ وثقة بحبه وحكمته.

و) النظر الى الله

ذكرت القديسة تريزة الصغيرة ان الصلاة يمكنها ان تكون "نظرة بسيطة". أن الكلام ليس ضروريا دوماً بين الناس الذين يتحابون. انه يصبح مراتٍ عديدةَ شيئاً مُعقداً، لأنه نادرا ما يُعبر بصورة كاملة عما نقصده. أما النظر فهو فعل بسيط ويستطيع ان يكون ناطقاً تماماً. إنه لغة القلب. ("القلب" راجع معنى هذه العبارة أعلاه، ضمن موضوع توضيحات في معاني عبارات الروح والقلب والنفس والجسد)، انه "مركز الشخص الأنساني كله، ومجال العمق الذي يَمزج فيه الجسدُ والنفس جذورَهما، انه الينبوع الحيوي لوجود الأنسان ومكان اتصاله بينبوع الحياة نفسه (اي الله).

(راجع J. SERR, LA PRiERE DO coEUR, p. 16-17)

والنظر المقصود هنا هو نظر "عينَي القلب" (أفسس 1: 18). أو نظر روح "الأنسان" الصادر من مكان أعمق من صعيد العاطفة العادية وأفكار العقل والذي يستطيع دوما ان يتجاوزها. مما يجعل صلاة النظر ممكنة في جميع الظروف النفسية والجسدية.
وهكذا عند يوحنا الدالياثي:

- "ان الصلاة الحقيقية لا تقوم على حركات الشفتين ولا على تكثير الكلمات ولا على تركيب الجمل بل على مدح صامت بسيط ينبعث من القلب".

- "ثَبت يا أخي روحك بلا حركة وتَعَجَب بحب الله لنا".

- "ان النظر الى الرب تساوي وحده للروح المؤمن جميع طلبات الصلاة، وجميع التسابيح، وجميع أفعال الشكر".

- "أتكل على الله... وأطل نظر قلبك الى الله في الأنتظار، وفي السكوت بالنسبة الى كل حركة (نفسية) وكل كلمة".

ما الذي ستحمله نظرتنا الى الله؟

ستحمل الفرح والحب والشكر (القديسة تريزة الصغيرة)، ستحمل التعجب والأنذهال، والانتظار، (ليأت ملكوتك). ستحمل ايضا روح التوبة والثقة، ستحمل تواضع العشار (لوقا 18: 13-14)، ولكن اذا امكن، تواضع عشار يتجرأ ان يرفع عينيه نحو الله لأنه واثق بحبه غير المشروط وسيحمل ايضاً طلب المعونة.

الى اين ننظر؟

يحتاج نظر القلب الى سند محسوس، فاذا حفظنا عيوننا مفتوحة نستطيع ان نحدق نظرنا على الصليب او على بيت القربان او على أيقونة، باعتبارها علامات حسية لحضور الله.

ونستطيع ايضا ان نُغمض أعيننا وأن نوجه نظرنا نحو القلب نفسه، حسب الطريقة الشرقية (التي سنتكلم عنها لاحقاً).

 

مسألة تشتت الافكار

اذا كنا لا نسعى للتفكير ولا للكلام في الصلاة فسنواجه مسألة (تشتت الافكار)، لأن النظر البسيط الى الله لا نستطيع ان نطيله بحيث تجتذب معه لمدة طويلة جميع القوى النفسية.

في الحقيقة، اذا كان الاهتمام بالله متوطداً في القلب فأن وجود التشتت على صعيد الافكار او المخيلة (كانت القديسة تريزة دابيلا كانت تسمي المخيلة "مجنونة البيت"!) لن يؤثر فينا بصورة عميقة: "اني نائمة وقلبي مستيقظ" نشيد الاناشيد 5: 2.
ولكن مع ذلك يجب علينا، عندما نحس ان انتباهنا مشتت، ان نسعى لأنعاش نظر القلب عن طريق عبارات قصيرة كهذه:

يارب اجتذبني اليك!، او أيها الرب يسوع ارحمني انا الخاطىء!... الخ.

فصلاة النظر كثيرا ما تقوم على سلسلة من اوقات النظر البسيط تفصلها اوقات من الكلام او حتى من القراءة الروحية. المهم هو ان تتم الصلاة كلها بدون اي توتر نفساني ودون مشكلة. إنه من المفيد ايضا ان نعضد هذه الصلاة البسيطة بمواقف جسدية تطابق بعض المواقف الداخلية وتساعد هذه المواقف الداخلية على الأستمرار الى حد ما. فمثلا الوقوف كعبارة عن الاستعداد والاحترام. والجلوس مع انحناء الرأس كموقف يناسب التأمل او صلاة النظر الى داخل القلب. والركوع كعبارة عن التوسّل. والركوع مع الجبين على الأرض (سجود) لتقوية موقف السجود الداخلي. والأيدي المفتوحة كعبارة عن تفتح القلب لتأثير الروح القدس.

 

ز) صلاة القلب

انها صلاة الروح (روح الانسان) الذي يبحث عن الاتحاد بالله الموجود في داخل القلب. لقد تكلمنا عن صلاة النظر الصادرة من القلب. أما ما نقصدهُ الآن هو توجيه نظرة الروح نحو أعماق القلب حيث يحل الله (2 قور1: 22 و أفسس 3: 17 و يوحنا 14: 23). انه "الرجوع الى القلب" (اشعيا 46: 8): "أرجعوا الى قلوبكم...")

يوحنا الدالياثي:

"ايها المسيح يا جمال الآب... أعطنا ان ندخل بواسطتك الى معبد هيكل نفوسنا (أي "القلب") ونشاهدك فيه يا كنز الحياة المخفي في داخلنا! ان الذين يتعبون في البحث عن مشاهدتك في داخلهم سيستريحون قريبا ويتمتعون بها... يا من شرعت السير في هذا الطريق لا تضجر من صعوبات البداية، عندما تريد ان تجبر روحك على الدخول الى عمقك ولا يستطيع ذلك. لا ترجع الى الوراء ولا تلتجىء الى التسلية الآتية من تشتتك في الخارج... ولكن، اذا ثابرت بباب قلبك وانت تحدق نظرك فيه... فستشرق في داخلك تلك شمس الافراح: أعني المسيح الذي يعطي النور للعميان وسيجتذبك اليه. (الخطبة 20)

"حدق نظرك اذاً، الى داخل قلبك ومنه سيشرق الله في نفسك. اذا نظرت الى هناك باستمرار فهناك ايضاً ستجد ملكوتك، أعني انك ستجد في داخلك الله الذي هو ملكوتك" (الرسالة 50)

بصورة عملية وحسب تعليم الروحانيين الشرقيين علينا ان نوجّه نظر الروح نحو القلب الجسدي، وذلك بسبب وجود تطابق بين مواقف الجسد والمواقف الداخلية، فهناك تطابق بين نظر العيون الجسدية ونظر الروح. وكذلك بين القلب الجسدي ومركز النفس العميق. بحيث ان الجسد الذي يتمركز، بموقفه ونظره، على القلب الجسدي يساعد النفس على التمركز على جزءها الأعمق حيث يحل الله.

ان دور الروح (روح الانسان) في هذا النوع من الصلاة لا يقتصر على النظر لأن الروح هو بذاته حقيقة دينامية. انه حركة صادرة من اعماق كيان الانسان حيث لا توجد معرفة دون حب ولا حب دون معرفة. لذلك فان صلاة القلب (أي الصلاة الموجهة نحو القلب) تُعرَّف ايضا كحركة داخلية تنوي التقرب من الله الحاضر في القلب أو الاتحاد به. فيقول يوحنا الدالياثي مثلاً ان صلاة القلب هي ان نركع او ان نسجد في داخل قلوبنا. أو ان نضم فيه ذواتنا بالله. وقال آخرٌ انها ان نُقّبِل بالروح رجلي المسيح في قلبنا مثل مريم المجدلية.

في هذه الصلاة تنغلق عيون الجسد بصورة طبيعية وتتوجه نحو القلب الجسدي نفسه. اما الروح فأنه يضم ذاته الى الرب. ان تأثير التشتت هو حينئذ على سطح النفس فقط. غير انه من المستحسن ايضا ان نسند نظر الروح او حركته بعبارات قصيرة نتلفظ بها بتركيز جميع قوانا النفسية.

صلاة القلب عند البيزنطيين

ان صلاة القلب التي ذكرناها بسيطة ولكنها لمدة محدودة. غير ان الروحانيين اليونان ثم الروس حاولوا ان يضمنوا نوعا من صلاة القلب تكون طويلة بل مستمرة (راجع كتاب "سائح روسي على دروب الرب"). ان اسلوب هذا النوع من الصلاة يقوم على دعم اتجاه الروح بصورة مستمرة الى داخل القلب بواسطة ضبط التنفس. وهذا ما يقوله عنها عادل ثاودورس في كتاب "صلاة القلب" (دار الكلمة، بيروت سنة 1975، ص 10- 12) (1).


(1) ملاحظة تمهيدية:

يستعمل المؤلف عبارة "الذهن" حيث "نقول نحن "الروح". ان الكلمة اليونانية المستعملة في النصوص الروحانية البيزنطية هي "Nous" وتعني فعلاً "الذهن". غير أن هذه الكلمة اليونانية اتخذت تدريجياً عند الروحانيين المسيحيين صفات "الروح" كما ذكرناها أعلاه (راجع الدرس الأول) بالاضافة الى معناها الفكري الأصلي. وقبل ان تظهر هذه الظاهرة عند البيزنطيين، ظهرت عند السريان اللذين يميزون عادة بين الجسد والنفس و"الروح". فالـ "الروح" عندهم يضيف الى مفهوم الذهن الأفلاطوني (= مَلَكة الفهم العميق) جميع الصفات الاخرى الخاصة بالروح بمعناه الكتابي).
من كتاب "صلاة القلب":

اسلوب "صلاة القلب" له وجهان:

- ويمتاز الوجه الاول بنظام تنفسي يرمي الى ضبط الانتباه وتوحيد القوى الباطنية. والهدف من ذلك هو ان يعيد المرء ذهنه الى قلبه، او ان يقوم على حراسة قلبه بواسطة الذهن. ويتم ذلك بضبط التنفس بحيث يجري ادخال الذهن الى القلب مع الشهيق التنفسي. ويجب العمل على التمهل بالتنفس واطالة الزمن بين الشهيق والشهيق الذي يليه بحيث يُضبط التنفس بدقة. اما الزفير فيقابل فترة من الاستراحة.

- اما الوجه الثاني فيعتمد على دعاء أسم يسوع المقصود به عادة الجملة التالية التي تُكرر بانتظام: (يا يسوع ابن الله ارحمني، انا الخاطىء) مقرونا بالرياضة التنفسية التي سبق وصفها. والغاية هنا من ضبط التنفس هي اولاً اعداد الجو الخاشع الطليق من قيود الاحاسيس والتخّيل والصور، ومثل هذا الجوّ الهادىء يلائم الصلاة والذكر ودعاء أسم يسوع.
وضبط التنفس يساعد على جعل هذا الدعاء عفويّاً. والدعاء العفوي غير الدعاء الآلي فانه يصدر عن القلب المنتبه بدون تكلف ولا نصب، وهذا من عمل الله.

يقول الروحانيون البيزنطيون ان ممارسة هذه الصلاة اي (دُعاء يسوع المقرون بالرياضة التنفسية) لا تلائم الجميع. وانه لا يجوز ان يمارسها احد دون مساعدة مرشد خبير. أن تجربتي الشخصية هي أن هذه الصلاة مفيدة دوما اذا مارسناها مدة قصيرة، وخاصة لتهدئة العصبية والتشتت الغير عادي.


ثالثاً: المثل الاعلى للصلاة الدائمة

انه من البديهي أن صلاة القلب البيزنطية لا تستطيع ان تكون الوسيلة الوحيدة للتقرب الى المثل الاعلى للصلاة الدائمة. فقد يسبب هذا الشكل من الصلاة الدائمة نوعاً من الأستغراب النفسي (ALiENATioN pSYcniQuE) في العلاقات مع الناس والأشياء. ومثل هذا الأستغراب يناقضُ بالدرجة الأولى رسالة العلمانيين التي تفترض أن يكونوا حاضرين للعالم وحاضرين لله معاً. غير انه من المفيد جدا ان نعيد لمدة وبصورة متواصلة "دُعاء يسوع" وقت عملنا (دون الرياضة التنفسية وحتى دون تركيز نفسي شديد) وذلك لدعم الصلاة "الضمنية" أو "صلاة الصحبة". التي سنتكلم عنها فيما بعد.
وفي سبيل الأقتراب الى الصلاة الدائمة يَنصح A.BLOOM تكثير لحظات الصلاة الخالصة (المحضة) في مجرى النهار:

- "أن أول ما نستطيع عمله هو ان نجبر انفسنا على القيام في حضور الله والبقاء فيه بعض اللحظات، دون أن نحاول الهروب منه ودون أن نسعى لأن نعطي لهذا الحضور طابعاً عقلياً او نُضمِنَهُ بانفعالات وأفكار. ان الصورة الكاملة لهذا الموقف نجدها في حادثٍ مذكور في قصة حياة خوري أرس (LE CuRE D AR S). فانه دخل يوماً كنيسته ووجد فيها فلاحاً شيخاً كان قد رآهُ مراراً عديدة جالساً على مقعدهِ فتراتٍ طويلة، مُحدِقاً النظر أمامهُ، دون أن يُحرِك حتى أصابع ورديتهُ. فسألهُ ماذا تعمل طوال هذهِ الساعات التي تقضيها في الكنيسة؟" فأجابهُ الفلاح الشيخ: "انظُرُ إليهِ وهو ينظرُ إليّ ونحن سعيدانِ معاً. ("أنظرُ إليهِ" اي "أنظرُ الى الله")... هذا هو الشيء الأول الذي يجب تعلمهُ: الجلوس امام الله دون ان نعمل شيئاً... واذا تعلمتموه فستسطيعون ان تجرّبوا تمارين أصعب. فستطيلون أولاً بعض الشيء حضوركم امام الله. ثم ستتعلمون إيقاف الوقت. والقصد هنا هو أن نقول أحياناً لأنفسنا، ونحنُ مشغولين بشيء مفيد بل ضروري: "أتوقف لحظة وأبقى مع الله وحده. فكل ما اعمله يمكنه ان ينتظر قليلاً!"...

واذا تعلمتم أن توقفوا الوقت بهذهِ الطريقة وان تسيطروا عليهِ مرة أومرتين أوعشرة في النهار وخلال لحظات أطول فأطول فستصلون الى أن تفعلوا ذلك في أي وقتٍ كان ومهما تعملون... وستستطيعون ان تعيشوا بالأتصال بداخلكم، أمام الله وجها لوجه دون انقطاع، سائلين اياه باستمرار (مشيئته)، ماذا يجب أن تعملوا ومُصغين اليه. (A.BLOOM, CERTiTUDE DE L FOi, P. 148- 152)

- فأنه من المهم ان نعيش كلّ حياتنا مع الله كما هو مهم ان نكرس له كل يوم بعض الوقت من الالفة المكثفة (وخاصةً إذا نسيناهُ خارج هذا الوقت!) فعلينا ان نكثر لحظات النظر اليه في (وبالأخص النظر إليهِ في داخلنا).

لنقرا في هذا الصدد ما يذكرهُ الأنجيل عن نظرات يسوع المسيح الى الآب ضمن حياتهِ العملية (متى 14: 19، مرقس 6: 40 و 7: 34، يوحنا 11: 41). ان مثل هذه العبادة وتطبيق توجيهات الدكتور بلووم سيجعلنا نعيش باستمرار في جو الصلاة حتى في خارج اوقات الحضور امام الله او لحظات النظر اليه. فحياتنا لن تتكون بعد من أفكار واعمال وأحاسيس فحسب بل من أفكار واعمال وأحاسيس تجري في اشعاع الشعور "الضمني" الخافت الدقيق بحضور الله بالقرب منا بصورة مستمرة، كالشعور الضمني المفرح بوجود النور او الهواء الصافي المنعش في الربيع، او الشعور بوجود شخص محبوب يعمل بجانبنا. فهكذا الشعور المستمر بحضور الله معنا في كل ما نعملهُ، يرافقهُ من جهتنا موقف التفتح الودود لهذا الحضور. انها صلاة الحياة كلها بصحبة الله.

رابعاً: مدخل الى دراسة الصلاة الصوفية

أ) تعريف التصوف: "أن كلمة التصوف تعني الأختبار النابع من اللقاء الباطني والموحِّد بين الأنسان واللامتناهي الألهي الذي هو أساس كيانه ووجودهُ، (وفي التصوف المسيحي وفي اليهودية والأسلام هو الأله الشخصي). وتعني ايضاً التفكير المتعلق بهذا الأختبار والجدّ في تفسيرهُ تفسيراً علمياً" (كارل راهنر المعجم ص 72).

ب) ان عبارة "التصوف" العربية لا تعّبر عن الحقيقة المقصودة هنا. فإن هذه العبارة ولِدت من ظروفٍ عرضية خاصة بالأسلام حيث ان بعض المؤمنين اللذين كانوا يسعون للتعمق في حياتهم الروحية أخذوا يلبسون ثوباً من الصوف. أما في المسيحية حيث ظهرت حقيقة التصوف منذ بدايتها فانها متعلقة بمفهوم "معرفة شيء سري"، في اليونانية MYSTiROS.

وفي اللاتينية MYST iCA. فالتصوف هو الأتصال بسرّ الله. (السرّ هو في الفلسفة المسيحية حقيقة ستتجاوز أعماقُها إدراك الذهن البشري دوماً).

ج) توحي عبارة التصوف الى الكثير من المسيحيين بالحياة في العزلة. غير أن التصوف هو قبل كل شيء آخر إختبار روحي. صحيح أن درجاته الأعلى تفترض العزلة في أكثر الأوقات، ولكن التصوف هو إختبار داخلي أكثر منه نوع من الحياة.
د) يبدو ان الأختبار الصوفي شيء طبيعي في الحياة المسيحية الناضجة (بدرجات مختلفة حسب شخصية كل مؤمن وظروف حياته). لنذكر فقط في هذا الصدد ما يقولهُ القديس بولس عن إشراق مجد الله في قلوب المؤمنين: "لقد قال الله: ليشرق من الظلمة نور". وقد أضاء نورَهُ في قلوبنا لكي تشرق فيها معرفة مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه المسيح" (2 كور 4: 6).

هـ) سيكون الأختبار الصوفي متطوراً اكثر أوأقل:

1) حسب أسلوب الحياة، إذا كان يسمح ام لا ممارسة الصلاة المحضة في أوقاتٍ كثيرة. وإذا كان يضمن للمؤمن تركيزاً نفسياً كافياً. لأن الأتصال الصوفي بالله يتم في داخل القلب.

2) وحسب طبيعة المؤمن النفسية. فالنمط النفسي التأملي يهيء المؤمن للأختبار الصوفي أكثر من النمط الأنبساطي (المتوجه الى الخارج).

3) وحسب قوة حبنا لله فوق كل شيء.

و) "الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الأله الحق وحدك ويعرفوا الذي أرسلتهُ "يسوع المسيح" (يوحنا 17: 3). أن الاختبار الروحي للمتصوفين ذو اهمية واقعية بالنسبة لجميع المؤمنين. لأنهم يعتبرون إختبارهم (والأمر هو حقاً كذلك)، عربون الحياة الأبدية. فعندما نسمع شهادتهم نستطيع أن نلمح العظائم التي سنعيشها.

 

 
 

Copyright  www.karozota.com

 
  
 

English