سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

 

شخصيات الكتاب المقدس

يوحنا المعمدان

المصدر: التفسير التطبيقي للكتاب المقدس

 

   

 

"الحب والكراهية" كلمات انتشر تداولها في المجتمع بكثرة، حتى صارت عبارات مستهلكة تُطلَق اعتباطاً على الأشياء، والمواقف، بل وحتى الاشخاص... والاستخدام العادي لمثل تلك الكلمات قد أفرغها من معانيها، حتى بات من الصعب علينا  فهم عبارات مهمة واساسية في علاقة المؤمن بالله، كتلك التي تصفه بأنه "إله مُحِب، يكره الشر". وبالتالي يتأثر إدراكنا لما يكرهه الله وما يحبه بمفاهيمنا الخاطئة، وبما نتمناه في فكرنا، ناظرين اليه: إما، بنفس الفكرة الخاطئة التي تم تصويرها عنه من خلال العهد القديم من "انه وبسبب طبيعته الصالحة والقدوسة، اله غضب ولابد أن يقع قضاءه العادل على الخاطئ" أو بنظرة العهد الجديد "إله المحبة" مصورين إياه إلهاً وديعاً، رقيقاً، مُحباً، رحيماً، سهل التوجيه على الدوام. ولكن كلمات الأنبياء تقف في تناقض واضح مع تلك المفاهيم الخاطئة، لتؤكد بان محبة الله وكراهيته أمران لاينفصلان ولا ينتهيان ولا يمكن استقصاؤهما ولا مقاومتهما. فكما ان كراهيته للشر والخطيئة حقيقية لايمكن انكارها، كونه قاضٍ بار وعادل يكره الخطية. كذلك محبته للخاطئ حقيقية أيضا لا يمكن تجاهلها، الى الدرجة التي جعلته يرسل ابنه الوحيد "يسوع المسيح" ليخلص العالم، ويتحمل نيابة عن الجميع قصاص خطيتهم.  

وقد رسم العديد من انبياء العهد القديم تلك الصورة الحقيقية لله بكونه "القدير الذي يكره الخطية ويحب الخطاة" في اسفارهم التي جسدوا فيها الخطايا الكثيرة والآثام الجسيمة لشعب الله وشعوب الارض كلها، وموقف الله منها. ففي خضم كل سيولهم المنهمرة من النبوات بالخراب والدمار والدينونة، الا انها لم تخلو من الامل والتعزية. فكما وصفوا دينونته وكراهيته للخطية وغضبه وهو يعاقبها، وصفوا محبته من خلال اعلانه لهم بان الدينونة لا تأتي إلاّ بعد فرص لاحصر لها للايمان والتوبة والرجوع للعبادة الحقة له وطاعته. وما إعلان الله لكل من اشعيا وملاخي، عن نبي سيرسله ليعّد الطريق امام ابنه الوحيد الذي سيأتي لخلاص العالم، الا إحدى تلك الفرص للتوبة عن كل خطاياهم والرجوع اليه، قائلاً "صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، قوّموا في القفر سبيلا لإلهنا" (اش3:40 ) و "هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف  فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم. لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن"(ملا6,5:4).

وكان "يوحنا المعمدان" هو الرسول المقصود. ذلك ما أكّدت عليه الاناجيل الاربعة باساليب مختلفة وبمضمون واحد، حيث نجد إقتباسا مزدوجا مأخوذاً من كلا النبوتين في الحديث عنه (مت 6,1:3  مر6,1:1  لو6,2:3  يو27,23:1)... حتى اسمه يؤكد كل ما أوردناه آنفاً، فيوحنا إسم عبري معناه "الرب حنان"، وقد ارتبط ومنذ البشارة بمولده، باسم الرب يسوع الذي معناه "مخلص" وكلا الاسمين من اختيار الله وليس الانسان. وفي كل الاناجيل نجد أن الله يعمل بحنان، ويعطي لشعبه الخلاص... ولو إطلعنا على الظروف والاحداث التي أحاطت بيوحنا المعمدان منذ البشارة بميلاده، وامتلائه من الروح القدس وهو مازال في بطن امه، والعادات والتقاليد التي كانت متبعة في الحقبة الزمنية التي كان يبشر فيها، والتي إنفرد بذكرها البشير لوقا، لادركنا سر الحكمة الالهية في اختيار اناس معينين في ظروف معينة وبتوقيت محدد لتحقيق كل وعد من وعوده الامينة... وذلك ما سنوضحه بالتدريج كالآتي:  

أولا: جاءت البشارة في زمن هيرودس ملك اليهودية، وسط محيط قاتم سياسيًا ودينيًا، حيث كانت النبوَّة قد  توقَّفت لما يقارب الأربعة قرون، والكل يعيش في جوٍ من الفساد والخطية والضياع الروحي، ليظهر إنسانان بارَّان أمام الله، يسلكان وفقا لوصايا الرب وأحكامه بغير لوم، هما "الكاهن زكريَّا من فرقة أبيا، وزوجته أليصابات من نسل هارون" (لو7,5:1). ورغم ان الوحى يشهد لتقواهما وبرهما "أمام الله" وذلك هو الاهم  لأن الأبرار أمام الناس ليسوا بالضرورة أبرارًا أمام الله. فنظرة الإنسان تختلف عن نظرة الله، "لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فينظر إلى القلب" (1 صم16: 7). إلا أن ذلك لا يعني أنهما كانا بلا خطية، إذ لا يوجد غير شخص واحد عاش على سطح الأرض لم يفعل خطية، وهو الرب يسوع المسيح، ولكن كلمة (بارين) تعنى بأن دوافعهما كانت بارة إذ كانا يجتهدان أن يسلكا فى طريق طاعة الله، مؤيدين خضوعهما الخارجي بطاعة داخلية... وبذلك ندرك: من جهة، إن نعمة الله تعمل من خلال أي إنسان مهما كان وفي أي وقت أو مكان لإتمام مشيئته، ومن جهة أخرى، مهما كان العالم من حولنا فاسدا، بانتشار الخطية فيه، ومهما كانت الظروف المحيطة بنا قاتمة بسبب الانحلال الروحي، الا انه وسط كل ذلك يمكن ان نجتهد لنكون أبرارًا أمام الله، فننعم بحنانه ونعمته الالهية تعمل فينا، فقط لو تذكرنا الله والتصقنا بقسمه ومواعيده الصادقة، خاضعين لكل قوانينه ووصاياه، ومؤيدين خضوعنا الخارجي بطاعة داخلية لان طاعة الروح معناها ان نفهم قصد الله ونتفهّم أحكامه وتدابيره فنحمل روح التمييز فينا.  

 ثانياً: رغم برهما الا أنهما كانا يشعران بالعار ويتألمان لأن الله لم يكن قد رزقهما بولد، إذ كانت أليصابات عاقرا وكلاهما قد تقدما في السن كثيرا (لو7:1). وكانت الذرية هى تلك البركة المرغوبة لدى جميع اليهود الأتقياء حينها، لأسباب عديدة أهمها إن كل عائلة كانت تترجى أن يأتي المسيح من نسلها. فقد شاء الله أن يعمل بطريقة  تمتحن إيمانهما كما عمل مع أبراهيم وغيره من المؤمنين السالفين لهما. كل منهم فى يومه، فقد كانوا جميعا فى مركز البر لكنهم فى حالة العقم بلا نسل.. وذلك ليصبح ذلك العقم شهادة لنا ولكل من زكريا واليصابات بعد ان تخطيا سن الانجاب و فقدا الرجاء فيه، وكما حدث مع كل السابقين لهم، بأن القوة هى من الله الذى يعمل في الظروف "المستحيلة" والذي لايحد قدرته أي شي مهما كان لأنه إله المستحيلات.

ثالثاً: جاءت البشارة أيضا في زمن كانت الخدمة الكهنوتية حينها تجري بالقرعة "وبينما كان زكريا يؤدي خدمته الكهنوتية أمام الله في دور فرقته، وقعت عليه القرعة التي ألقيت حسب عادة الكهنوت ليدخل هيكل الرب ويحرق البخور وكان جمهور الشعب جميعا يصلون خارجا في وقت إحراق البخور" (لو9,8:1). حيث كان هناك نحو عشرين ألف كاهن في كل أنحاء البلاد. وهو عدد أضخم من أن يتمكن معه كل الكهنة من الخدمة في الهيكل في آن واحد، لذلك كان قد تم تقسيم الكهنة الى أربع وعشرين فرقة منفصلة، قوام كل منها نحو ألف كاهن، حسب تعليمات داود الملك (1أخ19,3:24). فتقوم بالعمل أسبوعًا كل ستة أشهر حسب قرعتها. ولكي يتمكن الكاهن من الدخول إلى القسم الداخلي "هيكل الرب" ليرفع البخور، كان يجب أن تكون القرعة من نصيبه أيضاً.. لذلك فلم يكن مصادفة أبداً ما حدث مع  زكريا في ذلك اليوم وهو الأمر الذي لايحدث عادة الا مرة واحدة في العمر كله، أن يظهر له ملاك الرب، ويقول له بان طلبته قد استجيبت "فظهر له ملاك من عند الرب واقفا عن يمين مذبح البخور. فاضطرب زكريا لما رآه واستولى عليه الخوف. فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا، لأن طلبتك قد سُمِعَت، وزوجتك أليصابات ستلد لك ابنا، وأنت تسميه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته. وسوف يكون عظيما أمام الرب، ولا يشرب خمرا ولا مسكرا، ويتملئ بالروح القدس وهو بعد في بطن أمه، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم، فيتقدم أمامه وله روح إيليا وقدرته، ليرد قلوب الآباء إلى الأولاد، والعصاة إلى حكمة الأبرار، ليهيئ للرب شعبا معدا!" (لو18,12:1). هكذا كان الله يدبر بدقة أحداث التاريخ ليُعدّ الطريق أمام مجيء السيد المسيح وكما وعد، فعندما يُقال هنا كما في العهد القديم، إن إنساناً قد إمتلأ من الروح القدس، فمعنى ذلك أن هذا الانسان قد صار مخصصاً لغرض خاص، ولأداء مهمة معينة. فقد أُفرِز يوحنا من بطن أمه لخدمة خاصة لله. وربما حرّم عليه أن يشرب الخمر، كجزء من عهد النذير، وهو النذر القديم لتكريس الانسان لله(عد4,1:16).  

رابعاً: جاءت استجابة الصلاة في الوقت الذي ظن فيه زكريا بأنه من المستحيل بالنسبة له ولزوجته العاقر في شيخوختهما أن يرزقا بإبن "فسأل زكريا الملاك: بم يتأكد لي هذا، فأنا شيخ كبير وزوجتي متقدمة في السن؟ فأجابه الملاك: أنا جبرائيل، الواقف أمام الله، وقد أرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا. وها أنت ستبقى صامتا لا تستطيع الكلام، إلى اليوم الذي يحدث فيه هذا، لأنك لم تصدق كلامي، وهو سيتم في حينه" (لو21,18:1). فلو كان زكريا قد شك بالأمر! فأي طلبة يا ترى كان يقصد الملاك، أهي نفسها الطلبة القديمة؟! أم أن زكريا وبعد كل تلك السنين التي مرت به، وازاء احساسه بالعجز لعدم قدرته وزوجته على الانجاب بعد شيخوختهما، حيث بقيا هو وزوجته بلا نسل لفترة كبيرة من حياتهما بل لمعظمها. قد جعلته ينساها تماما ليستبدلها بطلبة أخرى طالما تمناها وانتظرها جميع اليهود بلهفة وهي مجيء المسيح المخلص، فذلك ما بدا واضحا في تسبحته بعد ولادة يوحنا وهو يبارك  الله قائلاً "تبارك الرب إله إسرائيل، لأنه تفقد شعبه وعمل له فداء، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه، كما تكلم بلسان أنبيائه القديسين الذين جاءوا منذ القديم: خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا، ليتم الرحمة نحو آبائنا ويتذكر عهده المقدس ذلك القسم الذي أقسم لإبراهيم أبينا: بأن يمنحنا، بعد تخليصنا من أيدي أعدائنا، أن نعبده بلا خوف، بقداسة وبر أمامه، طوال حياتنا. وأنت، أيها الطفل، سوف تدعى نبي العلي، لأنك ستتقدم أمام الرب لتعد طرقه، لتعطي شعبه المعرفة بأن الخلاص هو بمغفرة خطاياهم بفضل عواطف الرحمة لدى إلهنا، تلك التي تفقدنا بها الفجر المشرق من العلاء، ليضيء على القابعين في الظلام وظل الموت، ويهدي خطانا في طريق السلام" (لو79,68:1). وفي كلتا الحالتين فقد استجيبت صلواته، وإن كان زكريا قد نسي الطلب، رغم أن اسمه يعني "الله يذكر" الا ان الله لم ينسه، بل كان ينتظر الوقت المناسب ليباركهما بنسل. فسرعان ما صار له ابناً، وذلك الابن هو الذي سيعدّ الطريق أمام السيد المسيح. ولذلك لم يحصل على إجابة طلبته، الا في الوقت الذي إقترب فيه مجيء يسوع المسيح إلى الأرض.. ذلك كله لكي ندرك بأن الله إذ يتمهل علينا ونحن نصلى بلجاجة، فانه بذلك يُنَقي قلوبنا ويدرّبنا على الخضوع لمشيئته ويعدّنا لقبول البركة المطلوبة من يديه بشكر. وله السلطان أيضا أن يختار الوقت والظروف التى بها يجيب طلباتنا وبالطريقة والتوقيت الذي يجده مناسبا لاتمام مشيئته من جهة، والذي يصب في صالح المؤمن وفائدته من جهة أخرى. فلو كان قد استجاب لصلاة زكريا في وقتها، ما كان إبنه يوحنا ليصبح أعظم مواليد النساء، وما كانت ولادته لتكون مصدر فرح وابتهاج ليس له فقط وانما للشعب كله.

خامساً: أما بداية خدمته ورسالته فقد ظهرت في الحقبة الزمنية التي كانت احدى العادات والتقاليد المتبعة لدى الشعوب حينها هي، قيام الملك او الامبراطور الحاكم في وقتها بارسال شخص امامه يعلن عن قدومه ويهيء الطريق له، وعندما كان يصل ذلك الرسول الى المدينة المعينة، يعرف الناس أن شخصاً بارزاً على وشك الوصول. وهكذا فحتى من هذا الجانب يكون السيد المسيح كملك روحي قد أعدّ لنفسه رسولا سبق وأن أنبأ عنه في النبوات المذكورة سابقاً ليعلن عن مجيئه ويهيء له الطريق.

وذلك ماحدث فعلاً مع يوحنا المعمدان، فلا خلاف حول هذه الشخصية العظيمة، فقد كان ينتظر أميناُ ومستعداً لتحقيق ما ورد في تلك البشارة "وكان الطفل ينمو ويتقوى بالروح؛ وأقام في البراري إلى يوم ظهوره لإسرائيل" (لو80:1). فرغم كونه ابنا لكاهن من سبط لاوي، إلا انه لم يخدم ككاهنٍ في هيكل سليمان، لكنّه خرج إلى البرّيّة ليفضح ما وصلت إليه الطبيعة البشريّة، التي تخلّت عن عملها المقدّس كهيكل لله فصارت  برّيّة قاحلة وقفرًا مملوءاً بالجفاء، ومحتاجة إلى "المسيح الملك" لينزل إليها ويرويها بمياه روحه القدّوس، وهكذا حُرم يوحنا  من خدمة الهيكل الكهنوتية ليهيّئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربّنا يسوع. فالبشير لوقا يؤكد لنا بان يوحنا  كان في الصحراء حينما جاءته كلمات التوجيه من الله "في زمان رئاسة حنان وقيافا للكهنة؛ كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا وهو في البرية. فانطلق إلى جميع النواحي المحيطة بنهر الأردن ينادي بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا، كما كتب في كتاب أقوال النبي إشعياء: صوت مناد في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله مستقيمة. كل واد سيردم، وكل جبل وتل سيخفض، وتصير الأماكن الملتوية مستقيمة والأماكن الوعرة طرقا مستوية، فيبصر كل بشر الخلاص الإلهي" (6,2:3). وهكذا عاش يوحنا حياته كاملة منفذاً مشيئة الله فيها، ومركزاً فقط على سبب  مجيئه الى هذا العالم وهو "إعداد الطريق أمام المسيح" فقد كان متميزاً وفريداً في ملابسه ومأكله وكرازته، دون أن يهدف الى التمييز من أجل التمييز ذاته، بل بالعكس كان يهدف الى الطاعة. كان يعلم أنه له دوراً خاصاً يلعبه في العالم وهو المناداة بمجيء المخلّص، لذلك شحذ كل طاقاته من أجل هذه المهمة.

أما كيف هيّأ هذا النبي العظيم الطريق الملوكي؟! بالمناداة بالتوبة، قائلًا: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" فبالرغم من انه لم يكن لهذا الرجل البادي الخشونة أية قوة أو جاه في النظام السياسي اليهودي، إلا أنه كان يتحدث بسلطان لايقاوم، كأسد يزأر في البرّيّة، وكانت كلماته تحرك الناس، لأنها كلمات أصيلة، اذ كان ينطق بكلمة الرب بالحق كما هي بلا تنميق بشري أو مداهنة أو تدليل، تنبع عن قلب أمين وصادق، يحيا بما ينطق به اللسان، فكان للكلمة فاعليّتها. وهكذا كان يحث الناس على ترك خطاياهم وكان يعمدهم كرمز لتوبتهم، وقد استجاب له بالمئات "فخرج إليه أهل أورشليم ومنطقة اليهودية كلها وجميع القرى المجاورة للأردن؛ فكانوا يتعمدون على يده في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. ولما رأى يوحنا كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إليه ليتعمدوا، قال لهم: يا أولاد الأفاعي، من أنذركم لتهربوا من الغضب الآتي؟ فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة. ولا تعللوا أنفسكم قائلين: لنا إبراهيم أبا! فإني أقول لكم: إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. وها إن الفأس قد ألقيت على أصل الشجر، فكل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتطرح في النار (مت11,5:3). حقًا إن سرّ جاذبيّة رسالة يوحنا هو اختفاؤه في كلمة الله، وإعلان رسالته خلال حياته العمليّة، فلم تكن صرخاته تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، سواء الداخلية منها أوما تعلق منها بمظهره الخارجي، فحتى ملبسه وطعامه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة.

ومن الجدير بالذكر انه رغم كل ما أوردناه أعلاه عن عظمة يوحنا وقوته الخارقة التي أكدت عليها كثير من الشواهد والمواقف المذكورة في الأناجيل، ابتداءاً من تأكيد الملاك من انه "سوف يكون عظيما أمام الرب، ولا يشرب خمرا ولا مسكرا، ويمتليء بالروح القدس وهو بعد في بطن أمه" (لو15:1)، بعدها شهادة الرب يسوع عن عظمته وهو يتحدث الى الجموع عنه قائلاً "ماذا خرجتم إلى البرية لتروا؟ أقصبة تهزها الرياح؟ بل ماذا خرجتم لتروا؟ أإنسانا يلبس ثيابا ناعمة؟ ها إن لابسي الثياب الفاخرة والمترفهين هم في قصور الملوك. إذن، ماذا خرجتم لتروا؟ أنبيا؟ نعم، أقول لكم، وأعظم من نبي! فهذا هو الذي كتب عنه: إني مرسل قدامك رسولي الذي يمهد لك طريقك. فإني أقول لكم: إنه ليس بين من ولدتهم النساء أعظم من يوحنا، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه!" (لو28,24:7)، ثم عظمته لدى الشعب الذي أحبه كثيرا الى الدرجة التي تَمَلّك فيها الخوف من رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب فخافو أن يقولوا عن يوحنا أنه ليس بنبي عندما سألهم يسوع عن معموديته "فتشاور رؤساء الكهنة، والكتبة، والشيوخ، فيما بينهم، قائلين: إن قلنا: من السماء، يقول: إذن لماذا لم تؤمنوا به؟ فهل نقول: من الناس؟ فإنهم كانوا يخافون الشعب لأنهم كانوا جميعا يعتبرون أن يوحنا نبي حقا" (مر32,31:11). وأخيراً قوته وعظمته التي جعلته يقف أمام هيرودس الملك، ويجاهر امامه بشأن هيروديا فكان يقول لهيرودس لا يحل لك أن تكون لك أمرأة أخيك (مر18:6) .. نكرر، رغم كل ذلك إلا أن هذه الشخصية الخادمة الفذة تعتبر مثلا حيا للتلميذ الوديع، الأمين، الزاهد بالسلطة وبكلّ أمجاد هذه الدنيا الفانية، فقد كان بسيطًا زاهدًا يعيش في الجبال ويلبس وبر الأبل ومنطقة من جلد على حقويه، ويأكل جرادًا وعسلًا بريًا (مر6:1)، وقد تتوج زهده هذا بذلك التواضع العجيب الذي جعله يشير الى أبعد من ذاته حينما تزاحم الناس حوله، غير متناسيا ان دوره الأساسي هو المناداة بمجيء المخلّص قائلاً أمام الجماهير التي أتت لتعتمد منه جملته المشهورة "يأتي بعدي من هو أقوى مني الذي لست أهلًا أن أنحني وأحل سيور حذائه، أنا عمدتكم بالماء أما هو فسيعمدكم بالروح القدس" (مر7:1، 8)  وشعوره بعدم أهليته واستحقاقه للقيام بتعميد الرب يسوع عندما قصد اليه بنفسه ليعتمد منه قائلا "أنا المحتاج أن أتعمد على يدك. وأنت تاتي اليّ" (مت15,13:3). ولم يصنع لنفسه اتباعاً، بل حتى تلاميذه الذين أعدّهم، دعاهم الى تركه والالتحاق بالمسيح الذي له فقط يجب ان يكونوا اتباعاً. فنجده يعلن لهم ذلك عندما أتوا إليه ليعرّفونه أن المسيح الذي سبق وشهد له يعمّد والجميع يأتون إليه، قائلاً "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا أن لم يكن قد أعطي من السماء، أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح بل أني مرسل أمامه. من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس، إذا فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص" (يو27:3- 30). كان يمكن لهذا الخادم العظيم أن يدهمه سهم الكبرياء ويقنع الناس الذين أتوا إليه بأنه هو المسيح المنتظر الذي سيخلصهم من خطاياهم، لكن هكذا أعطانا يوحنا المعمدان مثلا في الأمانة في الخدمة وهو يعلمنا أن يكون شعارنا الدائم في عمل الله أنه "ينبغي أن اسم الله يزيد ويتمجد ونحن ننقص ونختفي".

ولكن، وكما هو الحال غالباً فان التميز والامانة في خدمة الله، والتمسك بالحق والمجاهرة به علناً، ثمنه غالٍ دائما، فكما كانت كلمات الحق التي نطق بها يوحنا مؤثرة وفعالة وحرّكت الكثيرين الى التوبة، دفعت الآخرين الى الرفض والمقاومة. وكان من بين هؤلاء الرافضين الملك "هيرودس أنتيباس" والذي كان حينها والياً على أحد ولاياة فلسطين الأربعة "الجليل وبيرية"، وكان طموحه أمراً معروفاً للجميع، كما كان زواجه من هيروديا إمرأة أخيه معروفاً أيضاً، حيث كانت قد هجرت زوجها لتتزوج به، وعندما واجههما يوحنا المعمدان لارتكابهما الزنا، دبرت هيروديا مؤامرة لقتله "فإن هيرودس هذا كان قد أرسل وقبض على يوحنا وقيده في السجن. وذلك من أجل هيروديا التي تزوجها هيرودس وهي زوجة أخيه فيلبس. فإن يوحنا كان يقول له: ليس حلالا لك أن تتزوج بزوجة أخيك! فكانت هيروديا ناقمة على يوحنا، وتتمنى أن تقتله، ولكنها لم تستطع. فقد كان هيرودس يرهب يوحنا لعلمه أنه رجل بار وقديس، وكان يحافظ على سلامته. ومع أنه كان يتضايق كثيرا من كلامه، إلا أنه كان يحب الاستماع إليه. ثم سنحت الفرصة عندما أقام هيرودس بمناسبة ذكرى مولده وليمة لعظمائه وقادة الألوف وأعيان منطقة الجليل. فقد دخلت ابنة هيروديا ورقصت، فسرت هيرودس والمتكئين معه. فقال الملك للصبية: اطلبي مني ما تريدين، فأعطيك إياه! وأقسم لها قائلا: لأعطينك مهما طلبت مني، ولو نصف مملكتي! فخرجت وسألت أمها: ماذا أطلب؟ فأجابت: رأس يوحنا المعمدان! فعادت في الحال إلى الداخل وطلبت من الملك قائلة: أريد أن تعطيني حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق! فحزن الملك جدا. ولكنه لأجل ما أقسم به ولأجل المتكئين معه، لم يرد أن يخلف وعده لها. وفي الحال أرسل الملك سيافا وأمر أن يؤتى برأس يوحنا. فذهب السياف وقطع رأس يوحنا في السجن، ثم جاء بالرأس على طبق وقدمه إلى الصبية فحملته إلى أمها" (مر28,17:6). وهكذا كلّل النبي العظيم حياته بالاستشهاد.

لقد أعطى الله لكل واحد فينا هدفاً يحيا لأجله، ويمكن أن نثق في الله ليرشدنا. ولم يكن لدى يوحنا الكتاب المقدس كاملاً كما لدينا الآن. إلا أنه ركّز حياته على الحق الذي عرفه من أسفار العهد القديم المتاحة له. ويمكننا، بالمثل، أن نكتشف في كلمة الله الحقائق التي يريدنا هو أن نعرفها. وعندما تعمل فينا هذه الحقائق سينجذب إليه آخرون. إن الله يقدر أن يستخدمك على خلاف اي إنسان آخر. أعلن لله استعدادك لأن تتبعه اليوم.

 

منجزاته ونواحي القوة في شخصيته

- الرسول المعين من الله لإعلان مجيء يسوع والمناداة به.

 -كارز ومبشر موضوعه الأساسي التوبة.

 -شجاع لا يخاف المواجهة.

 -معروف بأسلوب حياته المتميز.

- لا يقبل أنصاف الحلول.

 

ضعفاته وأخطاؤه

- شك لحظي في هوية يسوع.

 

دروس من حياته

- الله لم يعد خدامه بحياة سهلة آمنة: وذلك ما تم إيضاحه سابقا سواءاً في الكيفية التي عاش بها يوحنا حياته، أو الضغوط التي تعرض لها من معارضيه، والتي دفعتهم للزج به في السجن، فأمور الله لا تجري دائما حسب توقعاتنا حتى وإن كنا خداما أمناء له، وأفكاره وطرقه لايمكن دائماً إدراكها. فقد كانت خدمة يوحنا المعمدان إستعدادية، وتمت على أحسن ما يرام في بدايتها حتى جذبت الكثيرين اليها، فتهيأ ليوحنا بأن الإصلاح الحقيقى إستعدادا لظهور المسيح يتم على أكمل وجه وأن الجميع على وشك الخضوع له كإله وملك، ولكن كم كان إحباطه شديداً وهو يرى خدمته تتوقف في منتصف طريقها، ليصبح الخادم الأمين والنبى العظيم فى السجن من أجل أمانته، متحولا من خادم الرب الى أسير الرب. مما جعلت الأمور تختلط عليه!. فإذا كان هدف يوحنا هو أن يُعدّ الناس للمسيح الآتي، وإذا كان يسوع هو هذا المسيح، فلماذا يلُقى بيوحنا في السجن، في الوقت الذي كان يجب أن يكرز للجموع ليعدّ قلوبهم؟!.. وربما يراودنا أن نسأل: كيف يمكن للشخص الذي تَعرّف على السيد المسيح بالإيمان وهو ما زال جنيناً في أحشاء أمه "أليصابات" والتقى به، فتهلل وفرح عندما زارتها القديسة مريم (لو 1: 44)، ولمن تَكلّم بالوحى وقدم شهادة للمسيح قائلا: هو ذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم، وأنا أيضا رأيت وشهدت أن هذا هو أبن الله (يو34,29:1)، ليعود ويتردد من جهة الشخص الذى تكلم عنه!. لكن علينا أن لاننسى أبدا أن يوحنا المعمدان عاش حرا فى البرية، فكان من الصعب عليه جداً أن يجد نفسه فى السجن مقيدا بالأغلال من أجل الحق، ومضطهدا من أجل الشهادة للبر، لتؤثر كل تلك الظروف والالام في نفسه البشرية الحساسة يوما بعد يوم، فتخور عزيمته، نعم كان أعظم المولودين من النساء، الا انه كان إنسانا تحت الآلام مثلنا. وربما لم يكن ذلك شكاً بقدر ما كان: إما عدم إدراك منه لطرق الله، ولا عجب في ذلك لأنها تفوق إدراك البشر، وحالة كهذه مازالت تؤلم المؤمنين الحقيقيين أوقاتا كثيرة. أو ربما لأنه كان يعرف أن رسالته قد انتهت وموته قريب. فأراد قبل موته أن يسلم تلاميذه للمسيح. كما تبين سابقاً، فأرسلهم اليه ليسألوه: أأنت هو الأتي أم ننتظر غيرك" ليسمعوا ويعاينوا أعمال الرب بأنفسهم، وينضموا إليه، وذلك ماحدث فعلاً بعدها. ولهذا أجابهم الرب يسوع قائلا: اذهبوا أخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقامون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يشك فيّ (مت6,1:11؛ لو23,18:7). فكانت هذه الرسالة للتلاميذ أكثر مما ليوحنا.. أيا كان شعور يوحنا والسبب الذي دفعه لارسال تلاميذه، فيمكن أن نأخذ رد فعله ازاء كل ذلك، مثلا حيا لنا لنتصرف بحكمة في مثل تلك المواقف، فلو كان شكا فهو لم يكتمه في داخله ليميته، بل باح به بكل شفافية للمسيح عن طريق التلاميذ، كالمريض الذي يكشف نفسه أمام طبيبه. لنرى الرب بعدها يحنّ على عبده المسجون المضطهد، ويقدر ظروفه وآلامه، معلنا عن نفسه بأعمال محبته ونعمته الفائقة تاركاً لها الجواب على كل تساؤل والذي هو نفسه الجواب العملى الوحيد على شكوك طبيعتنا  البشرية الضعيفة في أي زمن كان. ما أعجب أعمال ربنا، فهو لم يوبخه على ذلك، بل بالعكس أجابه بطريقة يفهمها، معلنا له بأنه قد تمّم كل ما كان على المسيح إنجازه، ومكتفياً بهمسة عتاب رقيقة لكل من يشك فيه سواء في زمنه أو في الزمن الآتي  لكى يرده إلى الحق.. فإذا واجهت صعوبات وآلام من أي نوع كانت، أو ساورك الشك يوما ما في  خلاصك، أو غفران خطاياك، أو عمل الله في حياتك، فارجع إلى الأدلة في الكتاب المقدس، ولاحظ التغييرات في حياتك، ومتى شككت لا تتحول عن المسيح بل بالحري إتجه إليه.

- إتمام رغبات الله هو أعظم استثمار ممكن للحياة: كما أوضحنا سابقاً فان يوحنا كان يختلف تماما عن غيره من القادة الدينيين في ايامه، فبينما كان الكثيرون منهم طماعين وأنانيين، مهتمين بأن ينالوا المديح من الناس، كان هم يوحنا أن ينال المديح من الله، وإذ فصل نفسه عما كان سائداً في أيامه من رياء عاش مغايراً للآخرين، ليبين أن رسالته رسالة جديدة، فهو لم يكرز بناموس الله لكنه عاشه. فلم يستطع أحد أن يتمم القصد الذي أرسله الله من أجله، أفضل مما فعل يوحنا مستثمرا كل حياته لاتمام ذلك القصد من خلال تركيزه عليه.

- الأمانة والتواضع في الخدمة: كما لاحظنا سابقاً، فرغم أن يوحنا المعمدان كان واعظاً معروفاً ومبشراً مشهوراً، وقد جذب إليه جموعاً كثيرة، إلا أنه كان مسروراً جداً أن يأخد يسوع المكانة الأسمى، مدركا بذلك هدف رسالته، وصميم مهمته التي جاء من أجلها، وحدود خدمته. قائلاً عن نفسه إنه غير مستحق أن يكون عبداً للمسيح. بينما قال عنه المسيح إنه لايوجد بين كل البشر من هو أعظم منه. فإن كان الإنسان العظيم قد أحس بعدم إستحقاقه أن يكون عبداً للمسيح، فكم بالأحرى يجب علينا أن نُنَحي كبرياؤنا جانباً لنخدم المسيح! فعندما ندرك حقاً من هو المسيح يذوب كبرياؤنا ويتلاشى إحساسنا بأهمية ذواتنا. وهذا هو الإتضاع الحقيقي، وأساس العظمة في الكرازة والتعليم أو أي عمل آخر نؤديه للمسيح. وحينما نُسر بعمل ما يريد الله منا القيام به، تاركين كرامة العمل وكل مجده ليسوع المسيح، فان الله يصنع بنا ومن خلالنا أعمالاً عظيمة. 

 -مظاهرة الحق ومساندته أهم من الحياة ذاتها: لقد عرف يوحنا تمامًا بأنه سيموت إن وقفَ ضدّ الملك، وكان يمكنه أن يتخلَّص من الموت بصمتِه، لكنّه فضّل الشهادة للحق مع موت الجسد عن التغاضي عن الحق، مع راحة الجسد وسلامته إلى حين. ورغم موت يوحنا إلا أن صوته بقي خالداً الى الأبد، فان ذلك الصوت الذي كان يصرخ في البرية ليهيء الطريق أمام الرب لم يخمد حتى بعد قتله بل بقي عاملاً يُرعب قلب هيرودس الملك، "فعندما سمع عن السيد المسيح وأعماله العجيبة، ظن أن يوحنا المعمدان الذي قتله ثمنًا لرقصة فتاة في يوم ميلاده قد قام، قائلاً: ما هو إلاًّ يوحنا الذي قطعت أنا رأسه، وقد قام" (مت2,1:14 ؛ مر16,14:6). فإن ظنون هيرودس هذه قد كشفت عما جال في أعماقه، فإن كان قد سلّم صوت الحق للسيف، وقدم رأس يوحنا لراقصة، لكن بقي يدوي في أعماقه بلا هدوء، يلازمه بلا توقف. فبينما إرتبط هيرودس بالشهوات الزمنيّة فزال مع الزمن، إرتبط يوحنا بالحق، فدخل إلى عدم الموت مع الحق نفسه. فكم بالأكثر كلمة المسيح نفسها والكرازة بها حين ينطق هو بها خلال تلاميذه؟!.. فأيّامنا محدودة وزائلة إن ارتبطت بالأمور الزائلة من محبّة العالم وشهوات الجسد، وخالدة إن اختفت في ربّنا يسوع المسيح الذي لم يقدر الموت أن يُمسك به، فإن أردنا أن ندخل إلى عدم الموت، لنرتبط إذاً بيسوعنا "الحق الذي لا يموت"، فندخل معه وفيه إلى حضن أبيه حيث لا يمكن للموت أن يقترب إلينا! فقد أوصى تلاميذه قائلاً: احذروا من الناس! فإنهم سيسلمونكم إلى المحاكم، ويجلدونكم في مجامعهم؛ وتساقون للمثول أمام الحكام والملوك من أجلي: فيكون ذلك شهادة لي لدى اليهود والأمم على السواء. سوف يسلّم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ولده. ويتمرد الأولاد على والديهم، ويقتلونهم! وتكونون مكروهين لدى الجميع من أجل اسمي. ولكن من يثبت إلى النهاية، هو الذي يخلص. لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولكنهم يعجزون عن قتل النفس، بل بالأحرى خافوا القادر أن يهلك النفس والجسد جميعا في جهنم.(مت 28,22,21,18,17:10).

- التوبة أساس الدخول الى ملكوت الله: ان جوهر رسالة يوحنا هو "العماد" المرتبط بالتوبة، فجاء بمعموديَّته يهيئ الطريق لمعموديّة السيِّد المسيح لا لمغفرة الخطايا فحسب، وإنما للتمتَّع بروح البنوَّة لله وحلول الروح القدس فينا، حتى ننعم بصداقة مع الرب يسوع على مستوى الاتِّحاد الحق وشركة أمجاده، فنعيش ملكوت الله في داخلنا. حيث أن ملكوت السماوات اقترب عندما دخل الله نفسه إلى تاريخ الجنس البشري كإنسان. فالمسيح يسوع يملك الآن في قلوب المؤمنين، إلا أن ذلك الملكوت لن يتحقق تماماً إلا بعد إدانة كل الشر الذي في العالم وإزالته. فقد جاء المسيح الى الأرض أولاً كالعبد المتألم، لكنه سيأتي ثانية كالملك والديّان ليملك ظافراً على كل الأرض. لذلك فعلى المؤمن أن يجاهد لنيل ذلك الملكوت. وهذا ما أشار اليه الرب يسوع قائلاً: "فمنذ أن بدأ يوحنا المعمدان خدمته وملكوت السماوات معرض للعنف؛ والعنفاء يختطفونه!"(مت12:11). فرغم أن الملكوت هو عطية الله المجانية، إلا انه صعب المنال جداً للمتهاون والمتراخي، وقد سبق وأن أعلن الرب يسوع ذلك "ما أضيق الباب وأعسر الطريق المؤدي إلى الحياة! وقليلون هم الذين يهتدون إليه" (مت14:7). وحثنا على الاجتهاد لنتمكن من الدخول "ابذلوا الجهد للدخول من الباب الضيق، فإني أقول لكم إن كثيرين سيسعون إلى الدخول، فلا يتمكنون" (لو24:13).. فالعالم وأبليس والجسد كلهم يضغطون على المؤمن لتضييق الطريق. لذلك نلاحظ بان أول ما بشر به يوحنا المعمدان لدى ظهوره لأداء مهمته هو، المناداة قائلاً "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" ومن خلال رسالته  التي خاطب بها جموع القادمين اليه ومن ضمنهم الفريسيين والصدوقيين، أكد لنا بأن للتوبة جانبان: البعد عن الخطية والاقتراب من الله. ولننال المغفرة يجب أن ننفذ كلا الأمرين. فلا يمكن القول إننا نؤمن بالله ثم بعد ذلك نحيا كما نشاء، وكذلك لايمكن أن نحيا حياة سليمة اخلاقياً وأدبياً بدون الرجوع الى الله. وذلك لا يحدث الا عند تحويل وجوهنا عن الخطية الى الجهة المقابلة، فنتحول نهائيا من حياة التركيز على الذات، الذي يدفعنا الى تصرفات خاطئة مثل الكذب، الخداع، السرقة، النميمة، الانتقام، الفساد، وخطايا الجنس، الى إتباع طريق الله كما هي مدونة في كلمته. وأول خطوة في طريق العودة، هي الاعتراف بالخطية، عندئذ يقبلنا الله ويعيننا على أن نحيا كما يريدنا هو أن نحيا، عالمين أن الله وحده هو الذي يستطيع أن يخلّص من الخطية، فهو لاينتظر منا أن نطهّر نفوسنا قبل أن نأتي اليه. وذلك هو نوع من الجهاد ضد الذات للتغلب على الشهوات والافكار التي تهاجم الانسان وإلا ستتملكه بطغيان شديد وعنف وباالتالي إما: ستسلب نفسه كما حدث مع الملك هيرودس وهيروديا اللذين كانا فريسة لشهواتهم وغرائزهم التي دفعتهم الى قتل يوحنا، أو تجعله يظل ذلك الطريق الوحيد، فيعتمد في خلاصه على اساليب أخرى كثيرة كما حصل مع القادة الدينيين الذين كانوا يرتكزون على سلسلة أنسابهم أكثر من اتكالهم على إيمانهم في موقفهم من الله. والذين صُدِموا حينما سمعوا يوحنا يقول: إن بنوّتهم لإبراهيم غير كافية أمام الله، بل عليهم أن يثمروا ثماراُ يلبق بالتوبة (مت8:3 ؛ لو8:3).. وهناك نوع آخر من الجهاد وهو خاص بالمؤمن الحقيقي الذي يعيش علاقة شركة حية مع الرب يسوع، فيعمل جاهدا لنشر تعاليمه عن طريق إظهارها في حياته واعداد الاخرين لمقابلته بتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تعطلهم عن الاقتراب اليه، وتم التطرق الى ذلك لدى حديثنا عن مظاهرة الحق ومساندته... هكذا يكون الله قد حقق وعده بإعطاءنا الفرصة للتوبة والعودة اليه قبل أن يأتي يوم الدينونة الآخيرة، من خلال يوحنا المعمدان الذي قدم السيّد المسيح كديّان، فإن كان بلطفه يترك الحنطة مع التبن إنّما إلى حين، فسيأتي الوقت حتمًا ليذَرّي الحصاد، ويفصل القمح إلى المخزن، والتبن إلى النار (مت12:3؛ لو17:3) فالآن يعيش الأبرار مع الأشرار، والمؤمنون مع غير المؤمنين، حتى يأتي يوم الرب العظيم الذي يقوم بنفسه بالتذرية. يمسك رفشه في يده ولا يسلّمه لآخر، فإنه وحده العارف القلوب والقادر أن يفصل الحنطة من التبن بحكمة دون أن يخطئ.

 

بياناته الأساسية.

- مكان إقامته: اليهودية.

- وظيفته: نبي.

- الأقارب: الأب زكريا ؛ الأم: اليصابات ؛ قريب يسوع.

- المعاصرون له: هيرودس ؛ هيروديا.

 

الآية الرئيسية

"الحق أقول لكم: إنه لم يظهر بين من ولدتهم النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه!" (مت11:11).

وردت قصة يوحنا المعمدان في الأناجيل الأربعة جميعها. وقد تنبأ عن مجيئه كل من إشعيا (3:40) وملاخي (6,5:4). كما جاء الحديث عنه في ( أع22,5:1 ؛ 37:10 ؛16:11 ؛ 25,24:13 ؛ 25:18 ؛ 4,3:19).

 

 
 

Copyright  www.karozota.com

 
  
 

English