سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

مملكة الغساسنة العربية المسيحية

من كتاب "تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية"

الأب ألبير أبونا

 

 

   

 

 

استوطن العرب البلاد السورية منذ القرن الثاني الميلادي. فقد شدتهم إليها الأراضي السورية الخصبة. فأنشأوا امارات في حمص وتدمر والبتراء وفي لبنان وجنوبي الشام وفي أرض حوران. ولم يلبثوا طويلا حتى تمثلوا لغة السوريين وحضاراتهم وعباداتهم. فان اسماءهم واسماء آلهتهم هي في الغالب آرامية. وكانوا يستخدمون اللغة الآرامية في مراسلاتهم الدبلوماسية، بالإضافة إلى لغتهم العربية. والأبنية الأثرية التي شيدوها في تدمر والبتراء تعتبر من أجل منتجات الفن السوري.

 

1. الغساسنة

يرجع المؤرخون أنساب بني غسان إلى قبيلة قديمة من عرب الجنوب كان يرئسها سابقا شخص يدعى عمرو مُزيقياء ابن عامر ماء السماء. وقيل أنه غادر البلاد اليمنية في أواخر القرن الثالث الميلادي، واستوطن أرض حوران والبلقاء. ويظهر من رواية الأخباريين أن الغساسنة أخذوا الحكم بالقوة من أيدي عرب كانوا يحكمون هذه المنطقة قبلهم يدعون "الضجاعمة" وهم من سليح التي تعود إلى قبيلة قضاعة.

أما مؤسس دولة الغساسنة فيُدعى جفنة بن عمرو. لذا فقد دُعي الغساسنة أيضاً بني جفنة. وقد اختلف مؤرخو العرب على عدد الملوك الذين حكموا هذه الدولة العربية. فبينما يرى أبو الفداء في تاريخه أنهم واحد وثلاثون، ويجعلهم حمزة الأصفهاني اثنين وثلاثين، يرى المسعودي وابن قتيبة أنهم ليسوا سوى أحد عشر. وهذا دليل على ما يشمل أسرة بني جفنة من الغموض. لذا فإن لائحة الملوك التي نعطيها هنا ليست سوى تقريبية، وكذلك تواريخ حكم كل منهم.

-          أبو شمر جبلة                                                                (نحو 500)

-          الحارث بن جبلة (الحارث الأكبر أو الحارث الأعرج)                  528 – 569

-          أبو كرب المنذر ابن الحارث                                               569 – 582

-          النعمان ابن المنذر                                                           582 – 583

-          الحارث الأصغر ابن الحارث الأكبر                                       ؟

-          الحارث الأعرج ابن الحارث الأصغر                                     ؟

-          أبو حجر النعمان                                                             583 – 614

-          عمرو                                                                         ؟

-          حجر ابن النعمان                                                             ؟

-          جبلة ابن الأيهم                                                               (نحو 635)

استقر الغساسنة في النواحي الجنوبية الشرقية من دمشق الشام. وقبل غروب القرن الخامس الميلادي، دارت في المنطقة أحداث سياسية أدخلت الغساسنة ضمن دائرة النفوذ البيزنطي. فقد شاء الروم اكتساب مودتهم ليجعلوا من دولتهم الفتية حاجزاً لرد هجمات البدو، وليكونوا خاصة سداً منيعاً في وجه الفرس وأنصارهم اللخميين. ولم يكن للغساسنة في مطلع عهدهم عاصمة ثابتة مثل منافسيهم اللخميين في الحيرة، بل كانوا ينتقلون من مخيّم إلى آخر، حتى استقرت بهم الحال فيما بعد في جابية الجولان، فأقاموا لهم مركزاً في "جلق" استقروا فيه بعض الوقت. وكانت "بصرى" الشام (اسكي شام) من أهم مراكزهم.

 

2. الملوك الغساسنة

منذ عهد الامبراطور انسطاس (491-518)، اعترف الروم بالدور الهام الذي يستطيع الغساسنة القيام به بصفتهم حُماة الحدود. وفي مطلع القرن السادس، أخذ هذا الدور يبرز بوضوح. وأول ملك للغساسنيين وأعظمهم شأناً هو الحارث ابن جبلة (528-569) الملقب بالحارث الأكبر أو الحارث الأعرج. وقد ذكرته المصادر الأغريقية، بالإضافة إلى المصادر السريانية والعربية، ووصفت أعماله البطولية ومآثره الجليلة. ويقال أنه منذ مطلع حكمه حارب المنذر الثالث ملك الحيرة وانتصر عليه في نيسان سنة 528 وعلى أثر هذا الانتصار، أقر له الامبراطور يوستنيانس الأول (527-565) بالزعامة على العرب القاطنين في بلاد الروم، ومنحه لقب "البطريق". وكان هذا اللقب من ألقاب الشرف الفخمة لدى الروم، ولذلك فلم يكن يُمنح إلا لعدد قليل من الخاصة. وكان يولي صاحبه امتيازات كبيرة ومنزلة رفيعة في الدولة، حتى أن بعض الملوك كانوا يشتاقون إلى الحصول على هذا اللقب من القيصر. وقد منح يوستنيانس لقب "فيلاركس" أيضاً للحارث، أي رئيس القوم وزعيمه. فكان الحارث بذلك أول رجل من الغساسنة يُمنح اللقبين اللذين انتقلا منه إلى أبنائه فيما بعد.

إلا أن المنذر الثالث الحيري استعاد قوته وغزا سوريا سنة 529 وعاث فيها فساداً، حتى بلغ في هجومه على بلاد الشام أسوار مدينة أنطاكيا. ولكنه تراجع بسرعة خاطفة حينما سمع بمجيء قوات كبيرة من جيش الروم. أما الحارث الغسانس فقضى أكثر أيام ملكه يحارب في سبيل بيزنطية ويدأب على خدمة غاياتها. وقد تم له الاشتراك معها في قمع ثورة السامريين قبل سنة 530. إلا أن تصرف الحارث في الحرب التي نشبت سنة 541 بين الفرس والروم أثار شكوك الروم في إخلاصه لهم، إذ تخلى عنهم ولم يقم بعمل يُذكر في هذه الحرب التي كانت بقيادة بلساريوس البيزنطي.

وفي سنة 544، عاد النزاع فتجدد بين الملكين العربيين، الحارث الغساني والمنذر اللخمي. فوقع أحد أبناء الحارث في يد المنذر الذي قدمه ضحية للعزى، كما ذكرنا سابقاً. وفي سنة 554، فاز الحارث على خصمه اللخمي في معركة حاسمة دارت رحاها على مقربة من قنسرين، فيها سقط ملك الحيرة قتيلا بالقرب من الحيار. وقد تكون المعركة التي سميت "يوم حليمة"، نسبة إلى حليمة بنت الحارث التي أبدت شجاعة خارقة في حض الرجال على مقاتلة الأعداء. أما سبب الخلاف بين هذين الملكين العربيين، فيُقال أنه كان على أرض تقع جنوبي تدمر، تمر بها الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشام، وهي من الطرق العسكرية الهامة ومرعى خصب لأعراب الشام والعراق. وقد شكل الامبراطور يوستنيانس لجنة تحكيم للبت في الموضوع، ولكنها عجزت عن فض النزاع. وقد اتهم الفرس أعدائهم الروم بأنهم يريدون الاتصال سراً بالمنذر ورشوته لتحرضيه على القيام ضد الفرس.

 

3. المسيحية بين الغساسنة

ليست لدينا دلائل واضحة تشير إلى تاريخ انتشار الديانة المسيحية بين الغساسنة. ولكن يبدو أنها أخذت تنتشر بين القبائل السورية انطلاقاً من مطلع القرن الرابع، حينما تبنت الامبراطورية البيزنطية هذه الديانة. وكان للجدالات العقائدية التي دارت في القرن الخامس صداها الكبير في نفوس القبائل العربية المسيحية. فكما انضمت القبائل الشرقية (اللخميون) إلى المذهب الشرقي النسطوري، تبنى خصومهم (بنو غسان) المذهب المنوفيزي وتمسكوا به بشدة.

وكانت الجدالات اللاهوتية تستهوي الحارث الأكبر، وبه تحولت المسيحية الشرقية القديمة إلى المنوفيزية. وبينما كان الامبراطور يوستنيانس الأول يدعم الخلقيدونيين، كان الحارث، بمؤازرة الامبراطورة تيودورة، يحمي المنوفيزيين الذين كانوا يتعرضون لشتى أنواع الاضطهاد من الروم في سوريا. وحينما ذهب الحارث إلى القسطنطينة سنة 563 لمقابلة الامبراطور، اغتنم فرصة وجوده في العاصمة لكي يلتمس مطراناً لمنطقته. ونال بأن يقوم تيودوسيوس بطريرك الاسكندرية الذي كان بإقامة جبرية في العاصمة البيزنطية، برسامة مطرانين هما يعقوب البرادعي وتيودورس العربي. وقد حصل يعقوب البرادعي على الرها كمركز أسقفي، مع سلطة واسعة على سوريا والديار العربية. أما سلطة تيودورس، فكانت تمتد إلى الديار الغربية وفلسطين، ومركزها في الحيرة من حيث المبدأ. إلا أنه كان في الواقع أسقفاً متجولا. وكان لهذين الأسقفين تأثير كبير، ولا سيما نشاط يعقوب الذي أصبح العامل الأكبر في نشر المنوفيزية ودعمها والدفاع عنها، حتى سمي المنوفيزيون "باليعاقبة" نسبة إلى يعقوب البرادعي[1].

وهكذا فقد أصبح الحارث، طوال حُكمه المديد الذي انتهى سنة 569، محامياً للمذهب المنوفيزي، وبفضله استطاع هذا المذهب أن يجتاز العواصف الهوجاء التي ثارت عليه في القرن السادس.

وسار خلفاء الحارث على خطاه في هذا الشأن. فكان ابنه المنذر منوفيزياً حميماً، وقد أحرز نصراً مبيناً على اللخميين سنة 570، في عهد ملكهم قابوس، في معركة شهيرة دارت رحاها في 20 أيار 570، قد تكون تلك التي أطلق عليها اسم "عين أباغ". ثم دفع غزواته حتى قلب مملكتهم، فأحرق الحيرة ذاتها. إلا أن الروم لم ينظروا إلى تصرفات المنذر وإلى تعصبه الديني بعين الرضى، ولاسيما أنهم لمسوا في ذلك نزعته الواضحة إلى الاستقلال. فاحتالوا عليه وألقوا القبض عليه قرب القريتين بين دمش وتدمر، واقتادوه إلى العاصمة، ومنها نفوه إلى جزيرة صقلية.

ولكن أبناء المنذر الأربعة ثأروا لأبيهم. فقام ابنه النعمان بانتفاضة شاملة ضد الروم والخلقيدونيين، لاسيما لأن الروم قطعوا عنه كل عون مادي. إلا أن الروم تمكنوا من كبح جماحه أيضاً وتوصلوا إلى حل هذه المملكة. وبذلك حلت الفوضى في بلاد غسان، وتفككت عرى الوحدة في بادية الشام، واختار بعض القبائل قواداً أو أمراء يقودونها ويحاولون العيش حياة مستقلة، كما انضم آخرون إلى القبائل الموالية للفرس[2].

والغريب هو أننا، في القرنين السادس والسابع اللذين يمثلان ازدهار الشعر العربي القديم، لا نجد أي اسم من القبائل المستوطنة في سوريا. ولهذا كان الغساسنة، حينما يريدون إحياء أعيادهم والاحتفاظ بأثرهم على العالم العربي، يستدعون من القبائل الأخرى ومن اعماق نجد والحجاز، شعراء مثل أمرئ القيس الكندي أو مثل الأعشى والنابغة وحسّان. ذلك لأن تمثيل الغساسنة للحضارة السورية قد أضعف تمكنهم من اللغة، فأصبحوا غرباء بالنسبة إلى لغتهم القديمة. فلم يكونوا يتكلمون إلا لغة عربية ركيكة تمتزج فيها التعابير السورية الآرامية.

 

4. زوال دولة الغساسنة

منذ نحو أربعة قرون، كانت الصحراء السورية وما بين النهرين خاضعة لحكم البيزنطيين والفرس. وكانت كل من الامبراطوريتين قد منحت أهمية كبيرة ودوراً هاماً للقبائل اللخمية والغسانية في حماية حدودهما. وحينما توارت هذه التنظيمات العريبة القوية، لن يبق ثمة ما يعوض عن دورها، وأضحت الصحراء من جديد غير خاضعة لمفهوم سلطة واحدة، وتصدعت الحدود، وتعدد الأمراء على القبائل المختلفة، وتحولت مملكة الحيرة إلى محافظة فارسية فيها تتأجج نيران ثورة خفية على الفرس، وانفتح الطريق لآخر غزو من الغزوات الفارسية الذي قضى على ما بقي من المقاومة في الصحراء، وواصل زحفه نحو الغرب، حتى بلغ بين المقدس سنة 614، في عهد كسرى الثاني. وحينما انسحب المدّ الفارسي، عادت القبائل العربية سيدة مناطقها تحت راية المذهبين النسطوري والمنوفيزي.

ولن تجدي ردة فعل البيزنطيين الزاحفين على بلاد الفرس في إعادة السلام والطمأنينة إلى قلوب العرب. ولن يقاوم هؤلاء العرب الفتح الاسلامي حين قدومه، بل سيرون في القادمين من قلب الجزيرة العربية أخوة لهم في العرق، وسيسرعون في الانظمام إلى شريعة الاسلام، لكي يجدوا فيها الديانة القومية التي طالما اشتاقوا إليها.

ولن نبالغ إذا قلنا أن السياسة البيزنطية تجاه الغساسنة والعرب المسيحيين عامة سوريا وفلسطين والبلاد العربية كلها كانت أحد الأسباب التي ساهمت في تسهيل المهمة أمام الإسلام. إذ أن هذه السياسة الخرقاء أنمت عند العرب البغض لمسيحية أرثوذكسية تمثلت لهم بقضية الامبراطور، وجعلتهم يتمسكون بشدة، نتيجة للاضطهاد والتعسف، بمنوفيزية مماحكة وجامدة لم توفر قوة لمقاومة فعالة وكافية أمام حركة ذات طابع قومي، كما لم يكن بوسعها الاعتماد على مساعدة من الخارج.

 

 

[1]  ظلت هذه التسمية ملازمة للمنوفيزيين طوال القرون اللاحقة. إلا أنهم يفضلون أن يُسموا بالسريان الارثوذكس.

[2]  وكان على الغسانيين في الشام في السنة السابعة للهجرة (629م) ملكان في وقت واحد. أحدهما الحارث بن أبي شمر، والآخر جبلة بن الأيهم. وكان الحارث يقيم في بُصرى، وفي مكانها الآن قرية صغيرة اسمها (اسكي شام) أي الشام القديمة. وبجوار بُصرى هذه دير بحيراء الذي نزله أبو طالب ومعه ابن أخيه صاحب الشريعة الإسلامية حينما قدما الشام للتجارة قبل ظهور الدعوة الإسلامية ببضع وعشرين سنة. وأما جبلة فهو ابن عم الحارث وكان يقيم بالبلقاء.

 

 
 

Copyright©  www.karozota.com

 
  
 

English