سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

الخلق وتكوين العالم والإنسان

 

القديس مار نرساي قيثارة الروح

من كتاب نرساي المعلم للأب د. بولس الفغالي

 

   

 

 1- الخلق بصورة عامة

أولا: مخطط الله الخالق

لم تأت الخليقة صدفة ولم تصورة بصورة مفاجئة. لقد حددها الله منذ الأزل، وظهرت في الوقت الذي حدده الله لها ورآه مؤاتياً. هنا نتطرق إلى موضوع معرفة الله المسبقة: "ما دفعه إلى خلق المخلوقات ليس فكرًا مستحدثاً، لأن هذه كانت منذ الأزل في معرفته مع جوهره... هذه الأشياء التي وُجدت مع جوهره. ورُسمت فيه لا بالطبيعة، بل بالحب. فيه صُورت العوالم التي وُجدت فيما بعد وأحصيت: كم وكيف ومتى توجد؟ لم يفكر حديثاً بأن يخلق فيما بعد، ولم يتأمل في الزمن بالزمن نفسه ثم صنعه. جعل النظام في عمل يديه ساعة يكون، مع أنه صُنع وكمُل لديه قبل أن يوجد".

ثانيًا: مسيرة الخلق

وُجد العالم في الإرادة الإلهية كما بالقوة حسب قول الفلاسفة. ولكنه حقاً وبالفعل ساعة خلق الله. ولكن كيف خلق الله؟ خلق بسلطانه الخلاّق وهي صفة خاصة. وهذا السلطان هو واحد في ذاته ومتنوع في ظهوراته المنظورة التي هي الخلائق: "تعالوا نتبين بإعجاب تبدّل سلطانه الخلاّق: هو واحد، ولكنه ليس بواحد في منظوراته".

وإذا أردنا تحقيقاً أدق نقول إن الله يعمل بإشارته (رمزاً). إعتاد نرساي أن يستعمل هذه اللفظة التي تعني حرفياً: إشارة الرأس أو العين، وتدل على عمل الله في خلقه. إذن، تعبر هذه اللفظة عن سرعة الفعل الإلهي، وتشدد على أنه يقع خارج الزمن. إن تحقيق الفعل يتم مع الإشارة، فلا تكون مسافة زمنية بينهما: "الإشارة الخفية الضابطة الكل أمرت فجأة، فتفجر كل شيء على لا شيء حيث لم يكن شيء... أعطى أمره أمراً واحداً بالنسبة إلى كل شيء، فوُجد كل شيء من العدم مع كلمته. إنطلق أمره سريعاً نحو خليقته وربما سبق الفعل إشارة أمره. لم ينتظر الفعل الإشارة ولا زمن الإشارة، ولم يتأخر في إظهار قدرة عظمته. بإشارة أشار إلى الخليقة لتظهر، فوُجدت حالا دون أن تعلم كيف وُجدت". الإشارة شبيهة بالأمر وهي تُذكر معه مراراً.

وتنضم الكلمة إلى الإشارة. فقد حدث لله أن خلق متلفظاً بكلمة: لم يفعل ذلك حين خلق الملائكة. ولكن حين خلق النور والإنسان تلفظ في كل مرة بكلمة مختلفة أوردها لنا سفر التكوين. هذه الكلمة رافقت الإشارة دون أن تكون مسافة زمنية بينهما. وهكذا فالكلمة والإشارة والتحقيق، كل هذا يتم في اللحظة الخلاقة الواحدة.

لقد تلفظ الله بكلمتين جوهريتين حين خلق، ولكن اختلف معناهما. بالأولى ("ليكن نور") خلق النور فعلم الملائكة أنه خالقهم. وبالثانية ("لنخلق الإنسان على صورتنا") تشاور مع الأقنومين اللذين يقاسمانه الجوهر الواحد. وإذ خلق الإنسان كشف عن الثالوث الأقدس. إن هاتين الكلمتين الخلاقتين تدلان على أهمية خلق النور والإنسان اللذين هم قطبان يلقيان بضوئهما على سائر المخلوقات.

ثالثاً: كيف تم الخلق

وُجد الله وحده قبل كل شيء، ووضع كل شيء على العدم. يؤكد نرساي مراراً أن كل شيء صُنع من لا شيء، من العدم. ولكنه يميز نوعين من الخلق: خلق الله من لا شيء، وخلق أيضاً من شيء موجود. فالنور والملائكة والنفس البشرية خُلقت من لا شيء. أما النيَّران فتكونا من النور، والجلد من الماء، وكذلك الزحافات، وحواء من آدم. وقبل أن نورد نصوص نرساي في هذا المجال، نشير إلى أننا هنا في الخط السرياني منذ أفرام السرياني وتفسيره لسفر التكوين.

"هو وحده وُجد قبل كل شيء ووراء كل شيء، وحين شاء صار اللاشيء شيئاً عظيماً... من العدم خلق كل شيء ساعة لم يكن شيء، وعلى العدم أقام كل شيء من لا شيء... فالذي هو بهيّ في جوهره جعل لخليقته ترتيباً بهياً، وخلق بحكمة من لا شيء ومن الشيء الموجود. وعلم الملائكة حين خلق النور البهيّ أن الخالق يقدر أن يصنع شيئاً من لا شيء. وقرص الشمس وتكوين القمر علما أن يستطيع أيضًا أن يحوّل الموجود ويصنع منه شيئاً آخر... العارف الذي يعرف كل شيء، حقق كل شيء بعلمه، وجار بالمبروءات إلى الوجود مما هو موجود ومن لا شيء. خلق النور من العدم ليدل على عظمته، وخلق نفسنا من العدم ليدل على أنه على كل شيء قدير. خلق النيرين من النور، خلق الشمس والقمر كمصابيح، فأنشدت أجواق الملائكة المجد للقوة التي كونت كل شيء".

ولماذا الخلق؟ إن الخليقة لا تزيد شيئاً على الله. هو لم يصنعها من أجل منفعة شخصية، ولكنها نتيجة حبه. أجل، الحب هو سبب الوحيد الذي دفع الله إلى خلق العالم: "أتى بالخليقة إلى الوجود، لا ليملأ نقصاً فيه، ولكنه أظهر إرادته الخفية: كم أحب ما يخصه! كون السماء والأرض وكل ما فيهما لا من أجل راحته، بل حباً ورحمة. كشف إرادته لعبيده... حين أراد بحبه وجد كل شيء من لا شيء".

رابعاً: عمل الستة أيام

لماذا ستة أيام؟ كان بمقدور الله أن يخلق كل شيء في يوم واحد، بل في ساعة واحدة. ولكن بسط عمله خلال ستة أيام ليعلم الملائكة: "يرون الخليقة تدريجياً فيعرفون كيف يسوسونها ويحافظون على النظام فيها. "دلّ" على حكمته بعمل يديه، بنشاطه المنظم، ومدّ عمله على ستة أيام من أجل تعليم الملائكة، كان بإستطاعته أن يخلق كل ما خلق في ساعة واحدة، ولكن عبيده ما كانوا عرفوا قوة عظمته. تأخر في خلق البرايا وصنع ما صنع لأجل منفعتنا فيكمل ما له بكمال لا هوته".

ويبين نرساي مطولا أن كل خليقة شكلت للملائكة تعليماً مختلفاً. "في بداية النهار صنع السماء والنجوم والأرض والماء والهواء. في الصباح كوّن النور من لا شيء. فتعلم الملائكة أنه هم أيضاً خُلقوا من لا شيء. في اليوم الثاني خلق الجليد من المياه ليعلمهم أنه يسهل عليه أن يخلق أيضاً من شيء موجود. في الثالث جمع المياه في مجتمع المياه فأفهمهم أن إشارة (عينه أو يده) تتسلط على مخلوقاته. في الرابع صنع النيرين، الشمس والقمر، فبين لهم (الملائكة) أنه يحفظ النظام في خلقه. في الخامس أزوج المياه فولدت الزحافات فعرفهم أن المخلوقات الصامتة نفسها تتم كلمته. في السادس خلق من الأرض الأجناس الخرساء فأيقظهم ليتأملوا في تنوعها.

"دلهم على قدرة جوهره بإصبعه قال: أنظروا يا ملائكة. أنا كلي القدرة إطلاقاً. كتب لهم كما بقلم كتاباً في عقلهم فجعلهم يهجون كتاباته عن الخليقة كلها. قامت إشارته قيام معلم في رأس صفوفهم، ورددت عليهم بقوة محتوى أسراره. صورت العالم لوحة أمام عيونهم، وأقامتهم لكي يتأملوا باهتمام. بنى الخليقة مثل قصر ملك الملوك، وأدخلهم إليه ليروا جمال البيت الملكي. علّمهم قدرة جوهره بالأشياء المنظورة، لئلا يُعنوا بالبحث في طبيعته الخفية. خفي عنهم، فما عرفوا عظمة قوته، ولكنه عرفهم إليها بواسطة مخلوقاته الواحدة بعد الأخرى. أسرع أمره أمام أجواقهم كالهادي، وقادهم إلى تعليم عن حبه الخفيّ. دلهم على حبه: كم يحب علم يديه، وكم يرغب أن يحفظ عمله من الأذى. خلق بحب كل خفي وظاهر، وأتم مشيئته بدون تعب فدل على حبه".

وبقي اليوم السابع. الله بنفسه قدسه فلم يخلق شيئاً في ذلك اليوم. "زود اليوم السابع بالبركات المقدسة فلا يكون غريباً، وفيه ما أراد الله أن يخلق شيئاً. ذاك اليوم كان يوماً من الأيام الأولى. سمّاه مقدساً مع أنه لم يتم فيه خلق لئلا نهمله". وقال نرساي أيضاً: "في اليوم السابع استراح الخالق من عمل الخلق، فبارك اليوم السابع ودعاه يوماً مقدساً".

خلق الله في ستة أيام، خلق عالمين أو منزلين: جعل الأرض للمائتين والسماء للخالدين. فالعالم الفوقي والعالم التحتي هما وعاءان يحتويان كل شيء. وقد جعل الله في المنزل التحتي المخصص للإنسان في هذه الحياة، جعل كل ما يحتاج إليه الإنسان: علق النيّرين في سقف ذلك المنزل، في الجلد، ووضع الثمار الضرورية للقيام بأوده. وحفظ المنزل العلوي للملائكة، وهو مليء بكل ما لذّ وطاب: أساسه الجلد الذي يشكل في الوقت عينه سطح العالم السفلي. وفي نهاية الأزمنة، سيُسمح للإنسان بأن يدخل إلى المنزل العلوي. أما رمز المنزلين فشجرتا الفردوس: شجرة الحياة ترمز إلى العالم العلوي، وشجرة الموت ترمز إلى العالم السفليّ.

"عرف الرب أن مكونين يليقان بالكائنات العاقلة: المنزل الأرضي للمائتين، والسماء للخالدين. فالذي كوّن كل شيء للخلائق مسكنين زينهما وبنى عالمين اثنين. صنع المسكن التحتي ليليق بميتوتنا ملأه بثمار جمعها لفائدة الجسديين. وصنع العلوي مسكناً جميلا ومليئاً بالخيرات فيتنعم فيه الروحيون بصورة روحية. للأرضيين صنع الأمور الأرضية، ووعد السماويين بالخيور السماوية".

ويتابع نرساي: "صوّر لنا الله العالمين بخير الشجرتين. أراد أن يكشف كما للصغار طبيعته بواسطة الرموز. بشجرة المعرفة ربط آدم بغنى الأرض، وبشجرة الحياة أعلن له غنى السماء".

أما إذا أردنا أن نعرف بنيتي هذين المسكنين، فنعود إلى العظة الأولى والثالثة حول الخلق: "بنى الخالق بيتاً عظيماً لحياة البشر، ووضع أساساته في المياه الرخوة وثبتها. ومد سقفه من سيلان الماء السائل، وجمع الماء فوق رأسه كما في خزّان. علّق مصباحين في سقف منزله، الشمس والقمر، وبإشارة من قدرته صبّ الزيت وأشعلهما. مجيد هو الخالق، وبهيّة خليقته، وعظيم تفكيره! هو الذي عرف مسبقاً وقبل أن يخلق، ما تحتاج إليه خليقته". وقال: "عرف الخالق أيضاً قبل أن يخلق كل موجود، أن مسكناً آخر هو ضروري للكائنات العاقلة في نهاية الأزمنة. لهذا خلق الجلد كسقف متوسط فيكون لنا بمثابة أرض لراحتنا".

 

2- تكوين العالم

للخليقة بداية، وقد صُنعت في وقت اختاره الله وحده. وهي تمتد في الزمن، لأنها ليست أزلية، بل تدمّر في نهاية الأزمنة ويُعاد بناؤها في المسيح. وهي تعرف التراتبية لأن جميع الكائنات ليست متساوية. هنا يميز نرساي نوعين من الطبائع: الطبائع الصامتة أو الخرساء وهي الجماد والنبات والحيوان، والطبائع العاقلة أو التي تتمتع بالنطق، وهي الملائكة والبشر. والطبائع العاقلة تسود على الطبائع الصامتة.

ويتوقف نرساي عند الخلائق المتعددة متتبعاً الترتيب الذي يجده في الفصل الأول من سفر التكوين، فكيف تصوّر تكوين العالم؟

أولا: تكلم نرساي عن خلق العناصر الأولى في ثلاثة مقاطع مختلفة، ولكنه لم يسمّ العناصر عينها في هذا المقطع أو ذاك. إنه يميز سبعة عناصر: السماء والأرض، النار والماء، الظلمة، الملائكة، الكائنات العاقلة والصامتة. وفي مكان آخر يعدد السماء والأرض والماء والهواء والملائكة والنور والظلمة. وفي عظة ثالثة يورد نرساي اللائحة الثانية ويحل النار محل النور.

في التعداد الأول حلت الكائنات العاقلة والصامتة محل الهواء. لهذا نقول إن التعداد الثالث هو الأفضل، لأن نرساي يؤكد بما فيه الكفاية أن النور خلق في صباح اليوم الثاني وأن الكائنات الصامتة والعاقلة قد كونت فيما بعد. ثم يبدو أن نرساي لم يُرد أن يقدم لنا لائحة جامدة بالعناصر الأولى، بل أن يعدد فقط مختلف الطبائع الأصلية وبالأخص النور والإنسان.

في الخلق الأول لم يُسمع الله صوته لأنه لم يكن من يسمعه. كانت الأرض حينذاك مسكناً مليئاً بالعظمة التي تغطي كل شيء، وكانت الأرض غير منظورة ولا شكل لها، وتغمرها المياه: "لم يقل موسى إن الله أسمع صوته في هذا الخلق الذي تم في البدء، لأنه لم يكن هناك من مخلوق يسمع فيتقبل التعليم... كانت الظلمة تغطي الأعالي والأعماق معاً، وكانت الأرض مطمورة بالماء قبل أن تتقبل بنيتها. في البدء لم يكن للأرض منظر ولا تكوين، فسمّاها موسى "غير مكونة، لأنها لم تكن قد زينت بالأشجار".

ثانياً: واهتم نرساي بخلق النور الذي يبدد الظلمة. فقد تقاسم النور والظلمة ساعات الليل والنهار بصورة متساوية. ومجد الله خليقته بكلمة لم تكن خلاقة، فأعلنها أنها كانت حسنة وجميلة: "وبالإضافة إلى الكلمة التي بها خلق النور، أسمع أيضاً صوتاً آخر شبح الخلق الذي خلقه جميلا. أيها المهندس الحكيم، الذي اعتنى بخلقه إلى هذا الحدّ! وضع حدوداً للنور ليبقى خاضعاً كما يليق. فصل بين النور والظلمة لئلا يسعى الواحد على رفيقه، وجعل ناموساً لجريهما بساعات الليل والنهار. دعا النور نهاراً والظلمة دعاها ليلا.

ثالثاً: وبعد هذا تم خلق الجلد من الماء الذي تجمد بحيث يستطيع أن يحمل الماء. فهو سيفصل الماء الذي على الأرض من ذلك الذي هو في السماء. يفترض نرساي أن الجلد تكوّن وامتد على سطح الأرض، ثم رُفع فجأة إلى السماء وجرّ معه النجوم. ولكنه يقدم أيضاً افتراضاً آخر: قد يكون الجلد تجمد ونشر في السماء وأخذ معه قسماً من المياه. خُلقت السماء من العدم، أما الجلد فخلق من عنصر الماء، والحياة التي يحملها الفلك تمنعه من أن يحترق بالكواكب المعلقة به:

"في اليوم الثاني صدر أمر: ليكن جلد! فقسم المياه وجعل نصفاً للأعالي ونصفاً للأعماق وقال: ليكن الجلد عنصراً جامداً وسط الأمواه، وليحمل المياه فوق سطحه لئلا يحرق. يا أمراً جمد الماء ذاك العنصر السائل وجعله طبعاً جامداً يحمل الماء".

رابعاً: وتكوّن النيّران من النور. أخذ الله الجزء الأكبر ليكون الشمس، وكوّن القمر بما تبقى. لهذا فالنهار أكثر ضياء من الليل. كل من الكوكبين يجري جريه خلال اثنتي عشرة ساعة. وحين ينتهي يترك مكانه للآخر. أما القمر فيصعد وينحدر اثنتي عشرة درجة في كل شهر:

"صنع النيرن من النور الأول الذي كان موجوداً وقسّمه بين الشمس والقمر شعاعات صغيرة. ثبت المنارة الشفافة بقرص الشمس العظيمة، وجعل عكر النور في قرص القمر الطري. أعطى النهار القسم الأكبر والأكثر ضياء، والليل الصامت القسم الأصغر والأكثر ظلمة. وحدد جري الشمس والقمر باثنتي عشرة ساعة: وحين ينتهي يترك المكان ليسير رفيقه".

خامساً: تكونت الزحافات بتزاوج الماء بالماء. وولدت الأرض الحيوانات. أما العصافير فتكونت هي أيضاً من الماء: "جمع المياه وجعل البخار خزاناً عظيماً. زوّجها فولدت الزحافات... أمر الأرض فحبلت وولدت الأجناس والأعراق، الحيوان الداجن وحيوان البر وكل الأجناس... خلق الطير من الماء، طبيعة تسبح في الهواء، ومع أنه من الماء، كالزحافات، فالهواء يحمله ويجعله يسير فيه".

سادساً: تلك هي نظريات تأويلية تتعلق بعمل الستة أيام. ولكن هناك نظرات ترتبط بالكوسموغونيا، وبها يحاول نرساي أن يشرح العوامل الجوية كالسحاب والمطر والرعد والبرق.

يتجمد الهواء ليحمل السحاب، وهو بطبيعته يقدر أن يطير لأنه غير مركب وغير جسدي. لهذا جعله الملائكة "مركباً" وأعطوه جسماً ليحمل الماء. الهواء هو بارد، ولكن قد تعدله الحرارة فيعطي المطر النافع للأرض. وحين يتحرك الهواء يُنتج العواصف.

ولنقرأ كيف يتخيل نرساي مسيرة السحاب: "تحمل السحابة، كما السفينة كنز الماء. وترتفع وتقيم في الأعالي وتنفتح. يمسك الروحاني (الملاك) مجاذيف الريح، ويوجّه السحابة لئلا تغرق في ثقل الماء المحصورة فيه. يا ملاحاً يُجري سفينة الهواء ويحملها بتحركات روحانية (الملائكة) بمثابة مجاذيف".

وينتج الرعد حين ينصّب ماء في آخر. أما البروق فهي سهام نار يصنعها الملائكة من الهواء. يرسلونها من العلاء بقوة جامحة فتتلاطم ويخرج منها شرار مضيء.

سابعاً: الألفيات

ونربط بهذه النظرات الكوسمولوجية رأي نرساي بالنسبة إلى عمر الكون. فهو يؤكد في مقطعين مختلفين أن العالم قد دام ستة آلاف سنة. يقول في المقطع الأول عن الملائكة: "ما هي القوة التي فيهم ليمسكوا بكل شيء؟ فهم يعملون منذ ستة آلاف سنة ولا يتراخون". وفي مقطع ثان يتحدث عن المركبة الروحية: "من لا يدهش من جربها في مسافة كبيرة! فمنذ ستة آلاف سنة وجريها هو هو". بهذه النظرية يرتبط نرساي بتقليد يحدد بداية الخلق: 5500 سنة ق.م. والمركبة الروحية هي أمر الله الذي خلق الكون وما زال يحفظه في الوجود.

وإلى هذين النصّين نضم مقطعاً من عظة عن إبراهيم، وفيها يجعل حياة أبي الآباء بعد خلق الكون بثلاثة آلاف سنة أي وسط الحقية التي تمتد من الخلق إلى نهاية العالم: يجعل الكاتب الملائكة يتكلمون وهم مدهوشون من الوحي الذي حمله الله إلى إبراهيم، مع أن الله لم يتجل لأحد من عبيده، وذلك منذ وجدوا، أي منذ ثلاثة آلاف سنة: "دهشت قوات العلى من معجزته العظيمة. قالوا: ما هذا الذي أتمه الخفي وسط الأرضيين وقالوا: لم نر ما حصل منذ وُجدنا، ولم نسمع أن الكائن تجلى لعبيده. ها قد مرّت ثلاث آلاف سنة حتى الآن، ولم يكشف لنا الطبيعة الخفية لحبه العظيم".

ونشير أيضاً إلى عظة أخرى لم تنشر بعد، رقمها 51 وموضوعها: المسيح الدجال: "الويل لنا بسبب هذا الرقيب الشرير الذي على تخومنا، الذي يضايقنا كل يوم ولم تنته مضايقته. ها قد مرت ستة آلاف سنة وما زال يضايق...".

ما يقوله نرساي هنا هو صدى لكرونولوجيا تأسست على ستة أيام الخلق كما نجدها عند لاكتانس الذي توفي بعد سنة 317 وركز تفسيره على كرونولوجيا المسيحية التي استعملها في القرنين الثاني والثالث ستكستوس يوليوس أفريكانوس: حسب 5500 سنة منذ خلق العالم حتى مولد المسيح. ولهذا تقابل نسة 6000 تقريباً سنة 500، أي أواخر حياة نرساي. ونجد الكرونولوجيا عينها في كتاب كهف الكنوز الذي يقول: إن المسيح سيأتي ليخلص آدم بعد خمسة أسابيع ونصف الأسبوع، أي 5500 سنة.

 

3- تكوين الإنسان

أولا: يختلف خلق آدم عمّا سواه، لأن الله تفوه في هذه المناسبة بكلمة مختلفة أعلن فيها أنه تشاور في "مجلس الثالوث". كلمة جديدة لأن الله لم يخلق الإنسان ذكراً وأنثى كما فعل بالنسبة إلى الحيوانات، بل خلق آدم أولا، ومنه كوّن حواء الشبيهة به نفساً وجسداً لتكون له رفيقة. جعل آدم الرأس، واحتلت حواء المكان الثاني فخدمت الرجل. كلاهما خلقاً خارج الفردوس، ثم أدخلا إليه ليكون مسكنهما. كل هذا الخلق تم أيضاً بفعل الحب الإلهي: "وفي نهاية أعمال الخلق لُفظت كلمة جديدة: لنصنع الإنسان العاقل على صورتنا ومثالنا... أسمع الله كلمة حين خلق وكوّن كل شيء، وحين خلق آدم تشاور وحسب حساباً جديداً". ويتابع نرساي: "لم يصنعنا كالحيوانات التي كانت ذكراً وأنثى. فآدم خُلق أولا، ثم حواء من ضلعه. كوّن آدم أولا ثم حواء من آدم... رأى آدم عجباً جديداً: بشر يُصنع من بشر، كامل في كل شيء بالجسد والنفس وشبيه به". وزاد: "حين كوّن آدم، دلّ على أنه جعله الرأس، وتكونت حواء في المقام الثاني فتقوم بخدمة الرجل. حوّاء هي مساوية لآدم بالطبيعة والبنية، ولكنها أقل منه بالسلطان...". وأنهى: "أي حب لجنسنا، أي إكرام لخلقتنا، أدخل الحياة فينا كما أراد، ونفحها فينا بحبه".

ثانياً: خلق آدم "على صورة الله". يشدد نرساي على هذه الفكرة، بل يعلن أن آدم هو صورة الله، لا بالطبيعة ولكن بالاسم والمجاز. والمسيح آدم الثاني سيكون الصورة الحقيقية التي تعيد بناء آدم الذي انحط بالخطيئة. بسبب المسيح كان لآدم العظمة الأصلية، وقد جعله الله وارث الخليقة وسيّدها، وقلب كل ما صنعه.

"كرم الله المائت في كل شيء: في بنيته وسلطانه. سمّاه صورته الخاصة وأخضع له كل موجود... صورته شبيهة بصورة خالقل بالاسم لا بالطبع، وقد سلطه على كل ما كوّن، كما يتسلط الخالق على ما يخصه... سمّى الله آدم الأول مجازاً صورة. ولكن الصورة تحققت في المسيح، آدم الثاني. هنا تمت الكلمة: تعالوا نصنع على صورتنا. فالخالق أخذ صورته وجعلها مسكناً لمجده، والمواعيد التي أعطيت لآدم تحققت في المسيح. فالذي سمّاه صورته وفسد قد أعيد بناؤه في المسيح".

كل الكائنات الصامتة والعاقلة، بما فيها الملائكة، هي في خدمة الإنسان لأنه سيدها: "ابتهجت البرايا به وسمعت له كما للرب، وراح الملائكة يخدمونه وهم فرحون". وبما أن آدم صورة الله فهو يكشف للخليقة، بل للملائكة، وجه الله. بالإضافة إلى هذا، فهو يشير إلى الأقانيم الإلهية الثلاثة. كل هذا يدل على أهمية الإنسان في هذه الأنطروبولوجيا: "إن يكن بعيداً أو قريباً، فالملك تكرمه صورته. وبآدم صورته أراد الخالق أن يعلم الكائنات العاقلة. ففي العالم، المدينة (العاصمة) الملكية، وضع الخالق صورته. فعرّف بصورة منظورة قوة طبيعته الخفية. حين كوّن الله الخليقة، منحها صورته فتقتدي بحبه حين ترى حبه نحو آدم".

ثالثاً: إذا نظرنا إلى الإنسان من الوجهة الماورائية، فهو مؤلف من نفس وجسد. بالنفس هو قريب من الملائكة، والنفس تشبههم بطبعها وهي جوهر كامل منذ المبدأ، غير مركبة وغير منظورة، روحية وخالدة. هي تقيم داخل الأعضاء، ولكنها خفية على الجميع. إنها تمتلك قوتين، الحياة والكلمة اللتين وجدتا معها منذ وجودها.

"واحدة هي طبيعة نفس الإنسان وطبيعة الروحيين. هي لا تُقهر ولكنها تقهر ذاتها. منذ البدء هي تمتلك في ذاتها جوهراً كاملا كما أن بنية السماويين كاملة. هي قريبون منها وهي من نسلهم. يتحببون إليها كل ساعة بأعمالهم لأنها قريبتهم". والملائكة أنفسهم يعتقدون أنها روحية مثلهم وخالدة مثلهم. إنه من نسل سام.

رابعاً: والإنسان بجسده جزء من الخلائق الصامتة. إنه يخضع هو أيضاً لناموس تكاثر النسل، لهذا فهو مائت في الأصل. ويؤكد نرساي أن كل شيء في الخلق يتوجه إلى الموت، وأن بنية جسد الإنسان تشهد أنه مائت. ليس التعدي على الوصية هو الذي جعل الإنسان مائتاً، والله لم يبدل مخططاته. لهذا ستكون الخطيئة سبباً من الأسباب التي دفعت الإنسان إلى الموت.

"إن تركيب جسم آدم يعلن أنه مائت، ورفقته لحواء كانت مليئة بالآلام. فالكون كله يشهد لهذا الأمر بمخلوقاته، والثمر والزرع جُعلا لبقاء الزرع المائت. وقال في مكان آخر: "عرف الله حين كوننا أنه صنعنا مائتين. وشهدت خليقته أنه عرف أنها خُلقت للمائتين". وقال: "خُلق آدم مائتاً، وكوّن له منزلا مناسباً، وجعل علة موته خطيئة تعدي الوصية".

خامساً: جعل الله آدم وحواء في الفردوس حيث وُجدت شجرتان: شجرة الحياة وشجرة الموت أو شجرة معرفة الخير والشر. رأينا أن هاتين الشجرتين تمثلان مسكنين: تدل شجرة الحياة على ملكوت الحياة، وتصور مسبقاً العالم الآتي. أما شجرة الموت فتدل على عالم الأرض.

منع الله الإنسان أن يأكل من شجرة الموت التي تحتوي المعرفة. فلقد ظلت المعرفة خفية في آدم وما كان اختبر بعد إمكانية التمييز بين الخير والشر. فكانت الشجرة محنة تهدف إلى إظهار هذه الإمكانية. لا شك في أن آدم كان حراً في أن يأكل من الثمرة أو لا يأكل: وكان الله قد وضع فيه الرغبة في شجرة الحياة. ولكن آغوى الثلاب آدم، فأكل من الثمرة المحرمة وهكذا اقتنى المعرفة. لم تملك الشجرة في  نفسها إمكانية التمييز، ولكنها كانت المناسبة لممارسة هذه الإمكانية.

سادساً: إن تفسير نرساي حول ظروف السقطة ونتائجها هو إسهاب أمين في النص الكتابي. إذ أراد الشيطان أن يغوي حواء، اختار حية، لأنه لم يعط له في البدء أن يتحول ويتخذ شكلا بشرياً. وإذ سمعت حواء أن الشجرة تحول الإنسان إلى إله، أكلت الثمرة مستبقة زوجها، لتحصل على اسم إله لنفسها وتكون الأولى لا الثانية بالنسبة إليه.

بعد السقطة، خجل آدم وحواء من عريهما، فصنعا لنفسيهما ثياباً بأوراق الشجرة التي أكلا من ثمرها. وكانت الشجرة تينة. ويتوسع نرساي مطولا في تدخل الله وفي معاقبته لآدم وحواء والحية. ويلاحظ أن عقاب آدم جاء بعد عقاب حواء والحية فكان أخف من عقابهما.

لم يُقم آدم وحواء إلا يوماً واحداً في الفردوس. ففي اليوم الذي كونا فيه أكلا وخطئا ومضيا.

وهكذا ينتهي حديثنا عن الخلق بصورة عامة، عن تكون العالم والإنسان. في هذا المجال تأثر نرساي بأفرام السرياني الذي أثر على مدرسة الرها، وتأثر خاصة بتيودورس أسقف المصيصة الذي اعتبره النساطرة المفسر بلا منازع. ولكن التوسع في هذه المقابلة يتعدى النطاق الذي حددناه لدراستنا.

 

 
 

Copyright  www.karozota.com

 
  
 

English