سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

أناشيد الميلاد لمار افرام السرياني

 

الدكتور امير حراق (جامعة تورنتو)

   

 

مقدمـــة

مار افرام شخصية سريانية فذّة فهو لاهوتي قدير، ثاقب النظر وشاعر ذو اسلوب رقيق وسلس ومفكّر، لا يصعب عليه التعبير حتى عن الاسرار الالهية وما بعد الطبيعيات. أضف الى ذلك سعة معرفته الفلسفية والعلمية، خاصة علم الطبيعة، وقد خزنها كلها في اشعاره ومؤلفاته التي لا تحصى والتي أغنت طقوسنا وليتورجياتنا.

ولد مار افرام في نصيبين حوالي عام 306 وتوفي في الرها عام 373 وما بين تلك السنين ترك لنا هذا القديس العظيم إرثا لاهوتيا وأدبيا يعدّ مفخرة لنا يتباهى بها الغرباء. يكفي أن تغلغلت أفكاره واشعاره الليتورجيات العالمية ومنها الأرمنية واليونانية والاتينية وحتى الأنكليكانية ويكفي أنه "ملفان الكنيسة الجامعة"!

لمار أفرام مؤلفات شعرية ونثرية وفي مجال الشعر، مجموعات موضوعية سميت ”مدروشي“ (مداريش) حول الفردوس والايمان والعفة وضد الهرطقات و... اناشيد الميلاد موضوع اليوم.

 

مداريش الميلاد

تتكوّن مداريش واناشيد الميلاد من 28 نشيدا وربما أكثر خاصة وان مجموعة أناشيد الدنح الحالية قد تكون اصلا من مجموعة الميلاد، ذلك لأن عيدَي الميلاد والدنح كانا يحتفلان بهما في يوم واحد أي (6) كانون الثاني. وَجَدَ الكثيرُ من أناشيد الميلاد طريقها الى ليتورجيتنا الشرقية خاصة زمن البشارة والميلاد كما يظهر من الفناقيث السريانية والحوذرة الآشورية-الكلدانية. يقدّم لنا مار أفرام في أناشيد الميلاد باسلوب تصويري لاهوتا مفصّلا لسر التجسد ودور مريم العذراء في تاريخ الخلاص لا يقل تفصيلا وتمحيصا. يستند مار افرام في تفسيره الشعري على الكتاب المقدس لا غيره، فلاهوته كتابي، غير فلسفي بالرغم من استخدامه مفاهيم فلسفية، وبهذا تكمن أصالة مار افرام الايمانية.

يستخدم مار افرام في شعره اساليب ادبية خاصة به، كالمشابهات والمفارقات والصور والرموز معظمها تنطبق على شخصيات كتابية. وينتقل الشاعر المرهف من اسلوب الى آخر بعفوية وبراعة تشدّ انتباه القاريء أو السامع لها وتثير فيه التأمل والصلاة معا.

 

مشاهدات ميلادية

المواضيع التي يثيرها مار افرام في أناشيد الميلاد عديدة ولا يسعني إلا أن أركّز كلامي عن بعض منها تلائم موسم الميلاد الذي نعيشه وسنرى قدرة هذا الشاعر القديس على افهامنا أصدق معاني التجسد وكأنه قريب منا.

 

البشرية تتطلّع الى الميلاد

منذ سقوط أبينا آدم في الخطيئة وطرده من الفردوس السماوي، شرعت البشرية بدءًا من آدم نفسه ومرورا بجميع الأنبياء والملوك والكهنة وباقي الأشخاص بالتطلّع الى مجيء المسيح الاله متجسدا ليرجعها الى حالتها قبل عصيان آدم ويصالحها مع الله. وعندما يولَد الاله في تاريخ البشر، تتحوّل أنظار البشرية الى مغارة الميلاد حيث الوليد الاله-الانسان مع أمّه بنت البشر مريم، لذا فعيد الميلاد هو ليس فقط أهم الأعياد وأبهجها بل وأيضا أمل البشرية جمعاء. تبدأ أناشيد الميلاد ببيوت شعر ننشدها في عيد الدنح: هونو يومو حاذي مور...

 

يا ربي يُبهج هذا اليوم الملوكَ والكهنة والأنبياء

فقد تمّت كلماتهم وأصبحت جميعها حقيقة ...

”عصا هارون اورقت والخشبة اليابسة أثمرت“

فُسِّر اليوم سرُّه: الحشا البتول قد ولد !

 

يذكر مار أفرام في نشيده الأول مجموعات من الرجال والنساء الأبرار القديمين وقد عاشوا وماتوا في انتظار المسيح: داؤد، سليمان، ميخا وبلعام، زكريا واشعيا... ومن النساء البارّات روث وتامار... هؤلاء وغيرهم منذ آدم اشتهوا رؤية المسيح في اجيالهم ومنهم من أصبحوا رموزا له. هنا يستخدم مار افرام اساليبه الأدبية ببراعة، خاصة المفارقات ليبرز معاني الميلاد السامية، فبالرغم من التشابه بين آدم والمسيح، حيث أن آدم جُبل من ارض عذراء وولد المسيح من العذراء (نشيد 2)، يسمي مار افرام المسيح آدم الجديد (نشيد1):

 

الأرض البتول ولدت                  آدم رئيس الأرض

والبتول اليوم ولدت                     آدم رئيس السماء

 

أدخل آدمُ سبات الخطيئة        الى المسكونة بالخطيئة

فنزل اليقِظُ ليوقظنا        من سبات الخطيئة

 

كما انتظر ابراهيم الخليل ميلاد المسيح، فيسوع هو نسيب ابراهيم وابنه اسحاق هو رمز للمسيح بشتى الأمور ومنها التضحية الكبرى:

 

سارة عندما ناغت اسحاق ناغته كالعبد

يحمل شبه الملك سيّدِه

فعلى كتفيه راية خشبته

وعلى يديه القيود والآلام، رمز المسامير...

 

ثم يأتي دور الأنبياء، موسى واشعيا وايرميا ودانيال وغيرهم، ثم الكهنة، خاصة ملكيصاداق فقد تاق الى سيد الكهنوت الذي طهّر بزوفاه جميع البرايا وهو ايضا رمز آخر للمسيح. والقضاة مثل شمشون والملوك ومن أبرزهم داؤد وسليمان لا يرمزوا فقط الى المسيح الآتي بل أن يسوع أيضا سيظهر من سلالة داؤد (نشيد 15):

 

داؤد أبوك أنشد لك مزمورا قبل أن تأتي

أن سيقرَّب لك ذهب من سبأ

المزمور الذي أنشده مجردا

ها قد تحقق: المر والذهب مكدّس أمامك !

 

مئة وخمسون مزمورا أنشدها بك ملّحها

لأن كل أقوال النبؤة تحتاج الى طيبك

فمن دون ملحك كل الحِكَمِ تبقى تافهة

 

ومن النساء اللواتي تقن الى ميلاد يسوع، سارة زوجة ابراهيم التي أحبّته لأنها أحبّت المسيح المخفى فيه (نشيد 11):

 

إياك يا ابن الملك أحبّت سارة وأبغضت الملك

لم يطب لها بيت الملوكية

لذا تنقلت مع المسبي ( ابراهيم )

كانت تميل اليه لأنها رأت ظهورك المخفي فيه

 

هكذا فالعهد القديم هو عهد انتظار، عهد الأمل، عهد مليء بالرموز التي تشير الى المسيح فالأنبياء والملوك والصديقون هم قبس من المسيح الآتي الذي به تكتمل النبؤآت وهو ملك الملوك والكاهن الأسمى.

 

 

لاهوت الميلاد

يعطينا مار أفرام مفهوم التجسد لدى السريان، فبالميلاد تتجدد البشرية وتصبح الأرض سماءا جديدة:

 

جدّد السماء لأن الجهلة سجدوا لكل النيرات

جدّد الأرض لانها فسدت بآدم

جبّلة جديدة صارت ببصاقه

وكافي الكل أصلح الأجساد مع الضمائر (نشيد 17) .

 

وفي الميلاد اللاهوت لبس الناسوت كما لو حاك اللاهوت لنفسه ثوبا وهو جسد المسيح. أما في النشيد الثالث فتجسد اللاهوت هو نورٌ يخترق الظلمة، اعفاءٌ من الديون، ايقاضٌ من النوم، نجاةٌ من الغرق — والديون والسبات والغرق ما هي الا مرادفات الخطيئة لدى شاعرنا. الله هو كالكرمة يعطي ثمارا، فهو الفلاح والحارث، الراعي والطبيب، ورئيس البنائين... ألقاب يعكسها الميلاد:

نسبّح من سهر وأنام من سبانا

نمجّد من نام وأيقظ سباتنا

المجد لله طبيب البشرية

المجد لمن اعتمذ وغرّق اثمنا في العمق وخنق خانقَنا

نسبّح بجميع افواهنا رب كل الوسائل (لخلاصنا)

 

ويربط مار افرام الميلاد بعيدَي القيامة والصعود، ولهذا العيد أبعاد ”تجسدية“ و”افخارستية“. فكما ان الله اللامحدود كان حاضرا في شخص طفل المغارة فكذلك الله اللامحدود هو حاضر في سر الافخارستيا. وكما صعد جسد المسيح الى السماء، فمن هم أهل لتناول جسد ودم المسيح في الافخارستيا سيُرفعون الى العلى روحيا.

 

يوم الميلاد

يوم الميلاد هو أعظم أيام التاريخ البشري ففيه تحقق فعلا الكلام الذي قاله اشعيا: إن البتول ولدت اليوم عمانوئيل في بيت لحم (نشيد 1). ويوم الميلاد يشبه من وُلد فيه ففي نشيد (4) يقول مار افرام ما ننشده في الليتورجيا: يوموخ لوخ دومي ...

 

يومك يشبهك        لأنه يحبّ البشر

فانه يتعاقب    ويأتي مع كل الأجيال

 

يومك متى ما زارنا          وعبر وذهب

يعود بحنانه                ليزورنا من جديد

 

إن الخليقة محتاجة                      الى ينبوعه

وكلها عطشى اليه             كما ولك يا سيدي

 

المجوس والرعاة

استنادا الى قصة الميلاد في انجيل متى، يعتبر مار افرام المجوس الخاضعين ليسوع والآتين من بعيد... رمزا للأمم ويقارن ايمانهم بالمسيح مع رفض اليهود له من أمثال هيرودس وجنوده. يؤكد مار افرام إن مهمة الكهنة والأنبياء والملوك اليهود قد انتهت وانتقلت جميعها من اليهود الى المجوس والى النجم المضيء نتيجة لعماوة اسرائيل وطيشها. أما الرعاة البسطاء فهديتهم من حملان طرية ترمز الى حمل الفصح:

 

حملوا وقرّبوا له حملا    رضيعا لحمل الفصح

بكرا للبكر     ذبيحة للذبيحة

حمل الزمان لحمل الحق

يا لجمال المشهد ! حمل يُقرَّب لحمل !

 

ثغا الحمل وهو يُقرَّب أمام البكر

شكر الحمل الذي أتى وحرّر

الأغنام والثيران من الذبائح

(وكذلك) حمل الفصح المتداول إشارة الى فصح الأبن (نشيد 7) .

 

 

زينة عيد الميلاد

في النشيد الخامس يعطينا مار افرام فكرة عن زينة عيد الميلاد في زمانه إذ كانت ابواب البيوت تزيّن بأكاليل الورود واوراق النباتات كما نفعل نحن ايضا في هذه اليام المباركة...

 

هذا هو الشهر الحامل كله كلَّ الافراح:

تحرير العبيد ، غنى الأحرار

تزيين الأبواب بالورود، ترفيه الأجساد

يلقي بالأرجوان بحبه كما لو على الملوك!

 

ولكن مار افرام ينبهنا من سطحيات الزينة المادية حتى لو كانت من ورود...  فأين تكمن زينة الميلاد؟

في هذا العيد ليزيّن كل انسان باب قلبه بالورود

فيشتهي الروح القدس بابه

فيدخل ويحلّ فيه ويقدّسه

ها انه يجول على كل الأبواب ليرى اين يحل !

 

 

زوّار وليد المغارة

البشر باصنافهم ورتبهم يأتون زرافات وجماعات ليسجدوا للمسيح في مذوده، وهداياهم تعكس طبيعة الطفل الالهي. اتى الحرّاث وسجدوا قدام "حارث الحياة"، وبجّل الفلاحون "الفرع الذي انبت من فرع يسى عنقودا بتولا من كرمة عطشى". ثم بارك النجارون ليوسف "مبارك ولدك رئيس النجارين":

 

إعترف باسم مهنتنا لتكون فخرنا

فتصنع نيرا خفيفا ومريحا

على حامليه وتصنع مكيالا

لا يمكن ان يكون غشا فيه لأنه مملوء حقا !

 

وهتف الأختان مع العرائس:

مبارك هو الطفل

إذ صارت أمّه عروس القدوس

طوبى لعرس انت فيه

فإن نفذ خمره فجأة بك يزداد مجددا

 

ثم انشد له الأطفال ”مبارك من صار لنا أخا ورفيقا“، وسمعت البنات أن البتول ”تحبل وتلد“ فقلن:

 

ظنّت الشريفات انك تظهر منهن

والجليلات انك ستسطع منهن

مبارك هو سمّوك فقد انحنى واشرق من المساكين

 

وتنبأت الصبيات اللواتي حملنه:

 

لأكن لك يا سيدي، فان كنت قبيحة

فانا لك بهية وإن كنت حقيرة

فأنا لك فاخرة ـ الخدر الزائل بك بدّلته !

 

مريم العذراء

أروع ما في أناشيد الميلاد وصف مريم في حدث الميلاد العجيب إذ يعطينا قديسنا ”لاهوتا مريميا“، لأنه لولا هذه المرأة البشرية البسيطة لما صار التجسد. ويركز مار افرام على نقطة مهمة جدا: أمومة مريم الفريدة سببها عظمة ابنها، فالعظمة له ولها التقدير على طاعتها. يذكر شاعرنا القديس "وسيطات" بين الله والبشر في العهد القديم مثل تامار وروث اللتين تتطلعتا الى مجيء المسيح، ولكن جميع أبرار هذا العهد يصلون لدى مريم كما ترسى السفن أمام الميناء ثم يتوارون. اذ أن مع الميلاد يبدأ العهد الجديد...

 

مريم مثال العذارى

عفة مريم وطهارتها يضرب بهما المثل ومار افرام معجب بأم المسيح العذراء، ويعلمنا بأن الطهارة تستمر ايضا باللواتي كرّسن انفسهن واجسادهنّ ليسوع (نشيد 12):

 

جنين في البطن وختم البتولية قائم

اصبح لك البطن الهيكل الملوكي

والحجاب البكارة التي عليه

البكارة خارجا والجنين داخلا... يا للحيرة الكبرى!

داخل الختم تحلّ الآن ايضا في العفيفات

وان افترى امرؤ على خطيباتك

فالختم الصامت يصرخ امامه

والحجاب المختوم يصرخ: إن مَلِكَنا هنا!

 

مريم كنارة وناطقة باسم المسيح

وضع مار افرام في فم مريم كلمات ملؤها العواطف والحنان والتقدير والخدمة تجاه ابنها. إنها أغاني رقيقة للطفل يسوع عبرها تسجد للطفل الالهي وعندما تنطق فهي كنارة تعزف لولدها اروع كلمات:

 

بك أبدأ وكلي ثقة بانني بك سانتهي

أنا افتح فمي وانت املأ فمي

أنا ارض لك وانت الحارث

ازرع فيّ صوتك يا زارع ذاته في حشا أمه...

 

رأت المجوس فكثرت ترنيماتها بقرابينهم

ها ان الساجدين لك يدورون حولي

وها قرابينك تحيطني

تبارك الطفل الذي جعل أمه كنارة الحانه !

 

اكرام مريم من اجل من حلّ فيها

مريم هي من البشر وقد اصطفاها الله لتكون أمّا لأبنه المتجسد. تبقى مريم انسانة ذات قداسة وطهر تعي بأن الذي حلّ فيها له وحده يليق السجود والتعظيم (نشيد 16):

 

كيف ادعوك ايها الغريب عنا الذي صار منا ؟

أإبنا أدعوك؟ أخا أدعوك؟

خطّيبا أدعوك؟ سيدا أدعوك؟

يا من وَلدَ أمّه ولادة اخرى من الماء؟

 

أخت انا من بيت داؤد، ابينا كلينا

وأم انا ايضا بسبب الحبل بك

وخطيبة انا بفضل قدسك

أمَة وابنة لأنك بالدم والماء اشتريتَ وعمذتَ !

 

لأن مريم حملت ابن الله ثم ولدته بشرا اصبحت أما عجيبة لإبن أعجب... يحتار شاعرنا القديس كيف يصف سر التجسد فالكلمات البشرية لا تعبّر بكفاية عن الالهيات، لذا ينذهل أمام هذا السر وهو مفعم بالحب والاعجاب (نشيد 11):

 

عجب هي امك! دخلها سيدا فصار عبدا

دخلها ناطقا فصمت في داخلها

دخلها رعدا فسكن صوته

دخل راعي الكل فصار فيها حملا خرج وهو يثغو!

 

دخل جبارا فلبس الخوف داخل الحشا

دخل مقيت الكل فنال الجوع

دخل مسقي الكل فنال العطش

عريانا وعاريا خرج منها وهو مُلبِس الكل!

 

وينهي مار افرام مداريش الميلاد باروع الكلمات:

 أمك ربنا لا أحد يعرف      كيف يدعوها!

ايدعوها بتولا                 فها ابنها موجود

أم متزوجة ؟                   لا يعرفها رجل

وإن كانت أمك لا تدرَك فأنت من يدركك ؟

 

لك التسبيح يا من يهوّن عليه كل شيء كربّ الكل!

 
 

Copyright©  www.karozota.com

 
  
 

English